x قد يعجبك أيضا

حركيات الوجدان الدولى الجديد

الخميس 14 أغسطس 2025 - 7:55 م

مع نشأة التحول الوجدانى الدولى الجارى، كواقع عالمى، نتاجًا لأوضاع فجرت عورات النظام الدولى (الوجدان الدولى الجديد - تضاريسه ومآلاته - الشروق 10 يوليو 2025)، يُتوقع لهذا الوجدان أن يكون «نعمة» إذا ما ولّد عزمًا للتغلب على مآسى الشأن العام العالمى أو أن يكون «نقمة» إذا ما استُنفدت طاقته فى التعبير عن الآلام دون إفراز مهام وترتيبات تغييرية وتصحيحية.

بمعنى آخر، التحول الوجدانى الدولى الجارى فى حاجة إلى توظيف لمعانيه وآماله.

بداية، تستدعى هذه الحاجة الإطلال على بعض المقاربات التعريفية، كمدخل للنظر فى حركيات التحول الوجدانى الدولى، من حيث البزوغ والمسارات.

أولًا - مقاربات تعريفية:

• فى اختلاف التحول الوجدانى عن التحول المزاجى: المزاج يكون - عادة - إما إيجابيًا أو سلبيًا، جيدًا أو سيئًا. لذا تكون تحولاته محدودة التنوع، حيث تقع غالبًا بين حالتين متضادتين، كأن يكون المزاج سلبيًا نتيجة التعرض لنبأ محزن أو إيجابيًا نتيجة ورود نبأ مفرح.

أما التحول الوجدانى فيكون أكثر تعقيدًا، الأمر الذى يرجع إلى التنوع الكبير فى العوامل المكوّنة للوجدان والمؤثرة فيه، والتى تساهم مجتمعة فى جعل الوجدان ممثلًا و/أو دافعًا لما يكون عليه الشخص من حس أو قدرة أو رغبة. لذا ينشأ الوجدان مما يكمن فى باطن (أى داخل) الإنسان من بنية نفسية و/أو إمكانية عملية، تقوده إلى التشارك فى صنع رؤية أو اتخاذ موقف.

من أهم العوامل، أو العناصر، التى تساهم فى تشكيل الوجدان نجد العاطفة، والخيال، والخلفية الثقافية، والطموحات، والقدرة (و/أو الخبرة) بخصوص صنع التوجهات (كفعل أو كرد فعل). أما العامل المفصلى بخصوص انضباط الوجدان والتحكم فيه، فيتمثل فى "الضمير". ذلك أن للضمير (وللظروف التى يمكن أن تؤدى إلى إيقاظه أو كتمه) دورًا رئيسيًا فى صناعة الوجدان، وفى صياغة تحولاته.

• فى المقارنة بين تحولات الوجدان وتحولات العولمة: تختلف تحولات العولمة، من حيث البنية وقوى الدفع وأدوات التنظيم، عن تحولات الوجدان. فى الأساس، تمثل العولمة وتحولاتها توجهات وترتيبات تمس العالم ككل، شعوبًا وحكومات، وتؤثر على أوضاع كافة مجالات الحياة، من تجارة واقتصاد وتكنولوجيا... إلخ، ناهيك عن الانعكاسات على المناخ وأوضاع الخير والشر، أو السلام والصراعات.

أما ما يربط بين التحولات العولمية والتحولات الوجدانية (الجارية) فيتمثل فى كون الأولى إطارًا مؤديًا إلى استفحال الخلل فى النظام الدولى، بينما الثانية قد بزغت كرد فعل على سوءات هذا الخلل (العولمى).

• الوجدانيات غير الوجدانية: إذا كان الوجدان يساهم فى بناء الرؤى والمواقف، والتى تتغير بفعل التحولات الوجدانية، فهناك من تكون وجداناتهم على قدر كبير من الاستاتيكية، وكأنها وجدانات معلبة. إنها الوجدانات الناشئة عن (والمرتبطة بـ) مصالح خاصة.

عادة، تنتمى الوجدانات "المعلبة" إلى أنشطة "البيزنس"، أو إلى أيديولوجيات سياسية أو غير سياسية. ولأن هذه الوجدانات تكون – نسبيًا – صعبة التحول، فهى إلى حد كبير مغلقة أو شبه مغلقة.

بمعنى آخر، يمكن الإشارة إلى هذه الوجدانات باعتبارها "شبه وجدانات"، أو وجدانات غير وجدانية (أو لاوجدانية)، حيث إنها أقرب إلى الثبات، والتقليد، والتعصب.

ثانيًا – التحولات الوجدانية: البزوغ والمسار:

باعتبار أن الوجدان قاعدة (أو منصة) تسهم فى تكوين الرؤى والمواقف، فإن عمومية وجود "الوجدانية" عند البشر تجعل منها نواة لتكوين ونشأة وجدانات عامة، جماعية أو مجتمعية.. إلخ. كانعكاس لذلك، نجد قدرًا ملحوظًا من خضوع الوجدانات للتشابه وللتباين عبر المجتمعات، طبقًا لظروف تتعلق - مثلًا - بالجغرافيا، والمناخ، والتراث، فضلًا عن التحديات الداخلية والخارجية التى تتنوع مكانًا وزمانًا.

فى هذا السياق، يمكن القول بوجود علاقة بينية كبيرة بين الحالة الوجدانية من جهة، باعتبار تأثيراتها فى الرؤى والمواقف، وما وصفه هابرماس (1929) بالفعل التواصلى (بمعنى تبادل وجهات النظر بشأن الرؤى والمواقف والاهتمامات). ذلك أن وجودية الفعل التواصلى على المستوى المجتمعى، كمُرَشِد للسياسات وللأنظمة والكيانات التنفيذية، تعنى صحة الاستيعاب المجتمعى للوجدانات، وحسن الاستفادة منها.

نجاح الفعل التواصلى بين (وعبر) الوجدانات يؤدى، ليس فقط لتجنب تعرضها للتحجيم أو الكتم، بل أيضًا لتواصل تطورها الذاتى، ومن ثم تطور (وصحة) ما يصدر عنها من رؤى ومواقف، فرديًا أو مجتمعيًا أو دوليًا.

وهكذا، تظل الوجدانات الخاصة بالشأن العام، محليًا أو دوليًا، موجودة دائمًا. وبينما يتذبذب ما يصدر عنها من رؤى ومواقف، ارتفاعًا وانخفاضًا، وحدةً ونعومة، إلا أن هذا التذبذب يظل فى نطاقه (أو مداه) متوقعًا ومقبولًا، طالما يكون الشأن العام على قدر من الاستقرار.

استقرار الشأن العام على المستويات المحلية ينبع - أساسًا - من استمرارية العلاقات الحميدة بين الناس والسلطات، سواء طبقًا لنظريات كبرى مثل نظرية «العقد الاجتماعى» أو طبقًا للدساتير المحلية.

بالتوازى، يأتى قدر استقرار الشأن العام على المستويات الدولية، إقليميًا وعالميًا، انعكاسًا لمدى سلامة الأوضاع بالمطابقة للمواثيق والنظم الدولية، على غرار مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان وجامعة الدول العربية، وكذلك مدى صحة وانسيابية أداء الكيانات الدولية الكبرى، مثل مجلس الأمن ومحكمة العدل... إلخ.

وهكذا، الوجدانات دائمًا موجودة، أما عن تحولاتها، بمعنى التغيير فى حدتها ومخرجاتها بأكثر من التذبذبات العادية، فإنها تطرأ كبزوغات من وقت لآخر، والتى تكون مؤقتة زمنيا ومحدودة مكانيًا.

هنا، تجدر الإشارة إلى أمثلة للتحولات الوجدانية: مثلًا، عن التحولات الوجدانية فى مصر، نشير إلى ثلاثة منها:

• التحول الوجدانى فور إعلان الرئيس عبد الناصر التنحى عن الرئاسة، بعد 5 يونيو 1967، والذى تجسد فى تظاهرات 9 و10 يونيو، منادية برفض التنحى واستمرار المسيرة حتى إزالة آثار العدوان.

• التحول الوجدانى عند جماهير طلاب الجامعات (السبت 24 فبراير 1968) ورفضهم لما عُرف بأحكام الطيران، حيث أعلنوا تحميلهم النظام ككل (برئاسة عبدالناصر) مسئولية النكسة، وليس بالذات بعض الضباط. لقد أدى هذا التحول للتوصل - قوميًا - إلى بيان 30 مارس، والذى مثّل منصة (أو بوصلة) تصحيحية لعلاقات ومسارات وطنية عديدة.

• التحول الوجدانى عند جموع المصريين رفضًا لرفع أسعار بعض السلع التموينية، والذى أدى إلى تظاهرات عمت البلاد (يومى 18 و19 يناير 1977).
أما على المستوى العابر للحدود الدولية، فيمكن الإشارة إلى الأمثلة التالية:

• تحول وجدانى عالمى ضد الحرب الأمريكية على فيتنام، الأمر الذى قاد إلى محاكمة شعبية كبرى للمسئولين الأمريكيين (1966)، والتى كانت بقيادة أستاذ الرياضيات والمنطق، الفيلسوف برتراند راسل (1872-1970).

• تحول وجدانى عالمى ضد إعلان الولايات المتحدة الحرب على العراق، وهو التحول الذى نشأ نتيجة الحس – عالميًا – بكذب الزعم الأمريكى بوجود أسلحة نووية فى العراق، مما يجعل حربها غير مبررة. هنا، تجدر الإشارة إلى الفاعلية الشعبية العالمية الكبرى التى جرت يوم 15 فبراير 2003 فى جميع العواصم تقريبًا، داعية لمنع إقدام أمريكا على ضرب العراق، الأمر الذى لم يجد استجابة. وفى المقابل، يشهد التاريخ بحدوث احتيال أمريكى على مجلس الأمن، للتعمية عن أي توجهات تكون كاشفة للكذبة الأمريكية، والتى اعتذر بشأنها لاحقًا (بعد إتمام تدمير العراق) كل من الرئيس الأمريكى (بوش الابن) ووزير خارجيته (باول).

• تحول وجدانى عالمى رافض لحكم محكمة فرنسية يقضى بإعدام المجاهدة جميلة بوحيرد، مما أدى إلى تخفيف الحكم إلى السجن، والذى لم يستمر حيث تحررت بوحيرد بتحرر الجزائر.

وهكذا، يقضى المسار الطبيعى باستمرارية استقرار الوجدانات، فيما يتعلق بالشأن العام، طالما تواصل وجود حد أدنى مناسب من الثقة بين عموم الناس من جهة، والمسئولين (أو الحكام) من جهة أخرى. أما فى حالة تلف هذه الثقة، فإن التحولات الوجدانية تبزغ تلقائيًا، متمثلة فى تصاعد للرؤى والمواقف الرافضة لانحرافات الشأن العام، والمنددة بالمسئولين عنها.

ختامًا، يمكن ملاحظة أن حركيات التحولات الوجدانية، محلية أو دولية، تلقى فى كثير من الأحوال استجابات من الأنظمة المسئولة، أو اعترافات بما يمكن أن تكون هذه الأنظمة قد اقترفت من أخطاء، ولو بعد فوات الأوان. أما عن مصير حركيات التحول الوجدانى الدولى الكبير، الرافض لما جرى ويجرى من "إبادات كلية" فى غزة، إبادات تحظى بتحالفات دولية/ إقليمية، فإن الحاجة قصوى لتناول العلاقات البينية بين حركيات هذا التحول من جهة، والشأنين الفكرى والعام من جهة أخرى.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة