مخطوطة ابن الجِروة
الخميس 14 أغسطس 2025 - 7:50 م
هذا هو المقال الثامن عشر فى سلسلة مقالات الشخصية القبطية فى الأدب المصرى، ومقال هذا الأسبوع عن كتاب "مخطوطة ابن الجِروة" للكاتبة الشابة هبة أحمد حسب، وصدر عن دار المحروسة فى عام ٢٠٢٥. وكان قد سبق لى قراءة عمل آخر لنفس الكاتبة الموهوبة بعنوان "فريدة وسيدى المظلوم" وهو العمل الذى فازت من خلاله بالمركز الثانى فى مجال الرواية فرع شباب الأدباء ضمن جوائز مؤسسة ساويرس الثقافية لعام ٢٠٢٥. وتصنّف الرواية موضع العرض كرواية أجيال، فهى تحكى عن صداقة وطيدة جمعَت بين أسرتين، إحداهما مسلمة وهى أسرة غالب فرغل تاجر الآثار، والأخرى مسيحية وهى أسرة برهوم الخيّال. ومن هاتين الأسرتين اللتين عاشتا فى نهاية القرن التاسع عشر فى إحدى قرى محافظة قنا-تتواصل صداقة الأولاد والأحفاد دون انقطاع حتى خمسينيات القرن العشرين. فمن نسل غالب فرغل سيولد محارب، ومن نسل برهوم الخيال سيولد سمعان، وفى ما بعد سيهيم عز الدين ابن محارب حبًا بالجِروة ابنة سمعان، وسيتزوجان بعد معاناة كبيرة وينجبان راوى الحدوتة كلها :ابن الجِروة.
• • •
هذا باختصار شديد جدًا مضمون الرواية المليئة بالتفاصيل وتشابكات العلاقات المعقدة بين الأصول والفروع وفى داخل الأصل الواحد والفرع الواحد. وكمثال على هذا التشابك فى العلاقات، فإن سمعان كان شديد الارتباط بعز الدين ابن صديقه محارب، وذلك بأكثر مما كان محارب نفسه مرتبطًا بابنه.ارتبط به لأنه وجد فيه الابن الذى لم يُرزق به أبدًا وعاش يحلم به طول العمر، وارتبط به لأن علاقته به ككل العلاقات الإنسانية السويّة كان يوجد بها سالب وموجب، وبالتالى فكما انجذب سمعان لعزّ فإن عزّ وجد آذانًا صاغية من سمعان كلما احتاج إليه، وذلك بعكس الحال مع أبيه. وبقدر ما خلفّت هذه العلاقة نوعًا من المرارة فى نفس محارب لأن ابنه "فى حِجر سمعان من زمان"، فإنها لم تؤثّر تأثيرًا حقيقيًا فى علاقة الصديقين. وعلى صعيد آخر، فإنه رغم كون سمعان قبطيًا متديّنًا، إلا أن علاقته بعزّ الدين كانت هى الشفيع الوحيد لقبوله أن يتزوّج عزّ الدين من ابنته الجِروة رغم اختلافه عنها فى الدين. صحيح أنه قاوم فى البداية، وحاول أن يسارع بتزويج ابنته من "مصراني" مثلها كما كان يقول أهل القرية، لكن قلبه أخذّ يحّن وينقله إلى المقلب الآخر فإذا به يسكت حتى على قيام عز الدين بقتل عريس ابنته الجِروة فى ليلة عرسهما، و يبكى بحرقة شديدة على قبر العريس المسكين تخففًا من الشعور بالتقصير فى حقه ويقول له "سامحنى يا ولدى ماهو كمان ولدى اللى الله كان چابهولى إكده ببلاش". ثم إذا به يتجاوز حتى فعل القتل ويقبل زواج عز الدين من ابنته الجِروة.
• • •
ولئن تصورَت الجِروة أنها وجدت العوض فى الزواج من عز الدين عن معاناتها السابقة-إلا أن تصورها كان أبعد ما يكون عن الواقع. أما عن بداية معاناة الجِروة فإنها ترتبط بلحظة ميلادها نفسها، لأنها بنت وأبوها سمعان كان يمنّى نفسه بولد، ولأن أمها وهيبة التى أحبها سمعان كما لم يحب أحدًا لا قبلها ولا بعدها- ماتت فور ولادتها فحملت البنت وزرًا لا دخل لها فيه. ومن يومها صارت الجِروة كائنًا غير مرغوب فيه قبل أن تعى بنفسها هذه الحقيقة. اعتبرها سمعان الأب وجه شؤم عليه حتى أنه ظل عامًا كاملًا يناديها بالبت، وعندما قرر أن يسميها اختار لها اسم الجِروة أى الكلبة الصغيرة، لأنها ذات يوم رأت جِروًا يلتقم ضرع أمه وظنتها لعبة فقلَدَته والتقمَت ضرعًا هى الأخرى. ترعاها زنوبة الخادمة وتحبها بصدق، لكنها ليست أمها، وهناك فرق كبير. ينافسها عز الدين على حب أبيها وربما كان أحبّ إليه منها، حتى إذا تزوجته وضمنَت طريقها إلى قلب أبيها سمعان بالتأكيد، سرعان ما لقى عز الدين مصرعه وهى حامل فى ابنها. ولا تقف معاناة الجِروة عند هذا الحد، بل إنها تورّث ابنها أزمة الهوية مع ما ورّثته له من چينات طبيعية. يتندّر رفاق ابنها عليه لأنه مولود لأب مسلم وأم قبطية ويلقبونه بابن الجِروة فيمنعه جده سمعان من الذهاب إلى الكتّاب إشفاقًا عليه، ويأتى له بمشايخ يعلمونه القرآن بينما صور العدرا تغطى جدران البيت. ويطارده هاجس الموت أثناء النوم فيأكل البوم حيًا كى يظل مستيقظًا طول حياته لا يغمض له جفن كما تقول الأسطورة، ويزيد ذلك فى غرابته ويسمح بالتندّر عليه. ويثقل حمله فيقرر أن يفرغ ازدواجيته فينا نحن القرّاء، تارةً يحكى لنا عن جذره المسلم وتارةً أخرى يحكى لنا عن جذره المسيحى، ولا يظهر لنا بشخصه أبدًا ولا نعرف عنه إلا حكايته مع البوم.
• • •
الرواية فيها خيال كبير، ومناقلة بين الماضى والحاضر عبر الفصول، واهتمام بالسياق الاجتماعى للشخصيات وهو اهتمام مستمر منذ رواية "فريدة وسيدى المظلوم"، بل إن مشهد الطهور لفريدة فى الرواية الأولى حاضر أيضًا فى الرواية موضع العرض بالنسبة لكلٍ من زين الدين والجِروة. وثمة شواهد أخرى على اهتمام الكاتبة بتوثيق الأعراف فى البيئة الصعيدية التى ترتبط بها، ومن ذلك وصفها الدقيق جدًا للميمر أو للنَدر الذى يتيحه الأقباط لأهالى البلدة جميعًا دون استثناء، و فيه تُتلى معجزات الملاك ميخائيل وبعدها تأتى الصلاة على النبى ومآثر سيدنا الحسين، ووصفها التفصيلى لطرق فكّ العكوسات عن المرأة العاقر والتى لا يعيش لها أبناء، وكذلك وصفها للكِشك الصعيدى واختلافه عن كِشك وجه بحرى الذى عشقته منذ غمستُ فيه أول لقمة. أما اسم الجِروة نفسه فقد نقلَته الكاتبة عن اسم ابنة عمها مع لزوم فتح قوسين لتوضيح إن الجِروة بكسر الجيم فى اللغة العربية لها معنيان: الكلبة الصغيرة والناقة القصيرة.
• • •
عندما تواصَلت تليفونيًا مع الكاتبة هبة حسب أبديت لها ملاحظتين على روايتها. الأولى أن العنوان لا يشير إلى المضمون. وذلك أن المخطوطة التى يرد اسمها فى العنوان ويوعد الشخص الذى يجدها ويحافظ عليها بالخلود هو ونسله من بعده لأنها توثّق التاريخ العائلى للكاهن باسا الرابع-لا تأثير لها فى الأحداث، ولا غضاضة أبدًا إن هى اختفت من الرواية ومن العنوان. وعلى هذه الملاحظة ردّت الكاتبة بأنها أرادت أن ترمز بالمخطوطة لكل التاريخ الذى ورثه ابن الجِروة عن جدوده المسلمين والمسيحيين. وفى الحقيقة فإن هذه الرمزية كانت غير واضحة بالنسبة لى كقارئة، وذلك لأن المخطوطة لا تخصّ الجدود أولئك وهؤلاء، وهى تظهر وتختفى، وتنتقل من يد لأخرى دون أى وظيفة لها فى البناء الدرامى للأحداث. بل إن إجمالى المذكور عنها فى كل الرواية ذات ال٣١٧ صفحة لا يتجاوز الصفحتين أو الثلاثة على أقصى تقدير. وبالتالى فلربما كان من وجهة نظرى عنوان "ابن الجِروة" فقط بدون مخطوطة هو الأقرب للتعبير عن المتن. والملاحظة الثانية المتكررة فى أعمال الكثير من الأدباء الشبان هى الخاصة بالاستطراد الشديد فى حكايات فرعية لا تفيد الخط الرئيسى للحكى ولا تخدمه. وكمثال فإن كل ماورد من حواديت عن الأشخاص والأحداث داخل الكرخانة التى تعرّف فيها برهوم الخيّال -الجد الكبير لكل السلسال القبطي- لأول مرة على زوجته شمعة بنت جرجس-يبدو لى كقارئة مشتّتًا للانتباه وزائدًا عن الحاجة، وذلك أنه تجاوز حدود ترسيم السياق الذى جرى فيه اللقاء والتعارف إلى تفاصيل التفاصيل فى علاقة الرجال المترددين على الكرخانة بنسائها.
• • •
أثق أن هبة حسب لديها الكثير الذى تقوله فى أدبها عن الشخصية القبطية، فلقد حكت لى كيف عاشت لفترة فى عمارة بحى عابدين كانت تتقاسم فيها أسرتان قبطية ومسلمة نفس الشقة، تفتحانها بمفاتيح واحدة، وتشتركان فى ذات الحمام، ويعيش أولادهما التسعة من البنين والبنات معًا، وهذه فى حد ذاتها رواية جديرة بالحكى، وإنُا لمنتظرون.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا