أكتب من فيينا التى تعرف معنى أن تكون الصحافة عقل الأمة وضميرها، لا مجرد ناقل للأحداث. هذا الأسبوع ودّعت النمسا أحد كبارها، الصحفى والمفكر هاينز نوسباومر (Heinz Nußbaumer)، الذى غادر الدنيا عن عمر يناهز الثانية والثمانين بعد أن ترك خلفه سيرة مهنية تُدرَّس فى قاعات الصحافة كما تُروى فى كتب التاريخ.
كان نوسباومر من القلائل الذين فهموا الشرق الأوسط لا من خلال تقارير المراسلين، بل من الميدان نفسه. رأيناه فى بيروت إلى جانب ياسر عرفات داخل الخندق، وفى طهران مع الخمينى إبّان الثورة، وقبلهما مع جمال عبدالناصر فى القاهرة، ومع معمر القذافى فى خيمته، ومع الملك فيصل والملك حسين وأنور السادات فى لحظات التحول العربى بعد حرب أكتوبر 1973، ومع الرئيس الأمريكى رونالد ريجان وهنرى كيسنجر فى واشنطن، ومارجريت تاتشر فى لندن، والدالاى لاما فى التبت. نادرًا ما اجتمعت هذه الجغرافيا فى سجل صحفى واحد، لكن نوسباومر كان من طينة أولئك الذين يُكتب بهم تاريخ المهنة.
• • •
قاد نوسباومر لقرابة عقدين قسم الشئون الخارجية فى صحيفة كوريير (Kurier) النمساوية، حيث صنع مع زميله الراحل هوجو بورتشيتش مدرسةً كاملة فى الصحافة الدولية؛ تجمع بين الدقة والتحليل الإنسانى، وبين المعرفة السياسية والضمير الأخلاقى. ثم انتقل فى التسعينيات إلى القصر الرئاسى مستشارًا إعلاميًا للرئيسين النمساويين كورت فالدهايم وتوماس كليستيل، قبل أن يعود إلى ميدانه الأثير، الكلمة الحرة، من خلال أسبوعية دى فورتشه (Die Furche) التى ظل كاتب عمودها الأشهر حتى عام 2023.
قرأت سيرته الذاتية «عالمى الصغير الكبير: لقاءات، تجارب، ذكريات» (Meine kleine, große Welt)، وفيها يكشف نوسباومر ملامح الصحفى الحقيقي: القريب من الإنسان، والبعيد عن الادعاء. يروى لقاءاته مع الزعماء كدروس فى الفهم، لا كغنائم فى السبق الصحفى.
أما كتابه الأشهر «الخميني: ثائر باسم الله» (Revolutionär in Allahs Namen)، فقد كان حدثًا صحفيًا عالميًا عند صدوره؛ لأنه لم يكن مجرد سيرة عن زعيم الثورة الإيرانية، بل دراسة فى التناقضات الدينية والسياسية التى صاغت الشرق الأوسط الحديث. كتب عنه كبار النقاد فى أوروبا باعتباره نموذجًا لما يمكن أن ينجزه الصحفى حين يتحول إلى مؤرخ بضمير المهنة لا بانحياز الأيديولوجيا.
• • •
نال نوسباومر خلال مسيرته سلسلة من الجوائز الرفيعة: كارل رينر (1974 و1986)، ليوبولد كونشاك (1990)، رينيه مارسيك (2000)، وجائزة كونكورديا للإنجاز الصحفى (2017)، إلى جانب تكريمه عام 2023 بجائزة هانز شتروبيتسر عن مجمل أعماله. لكنه كان يدرك، كما يُنقل عنه، أن الجوائز لا تخلّد الصحفى، بل يخلّده ما يتركه من أثر فى عقول الناس وضمائرهم.
فى مقالاته الأخيرة، حذّر من «البيانات الجارفة» التى أغرقت المهنة، ومن «الانزلاق نحو التفاهة» تحت ضغط السوق والمشاهدات، ودعا إلى المزيد من الشجاعة والتواضع والمقاومة فى وجه التسليع والسطحية. كانت هذه كلماته الختامية قبل أن يغادر، كأنه يكتب وصيته للأجيال الجديدة من الصحفيين.
كان نوسباومر كاثوليكيًا منفتحًا، مهتمًا بالحوار بين الأديان والثقافات، عارفًا بالشرق الأوسط أكثر من كثير من أبنائه، وصوتًا عاقلًا فى زمن الصخب. لم يكن منحازًا إلا لما يعتقد أنه الحقيقة، ولا مدافعًا إلا عن حرية الكلمة، وحتى فى ذروة عمله الرسمى ظلّ يكتب بضمير الصحفى لا بلسان الدولة.
• • •
رحيله يعيدنا إلى سؤال المهنة الأبدي: ماذا يترك الصحفى أو «الجورنالجى» - المسمى الأثير للأستاذ محمد حسنين هيكل - خلفه؟
يترك هاينز نوسباومر خلفه أهم حواراته الصحفية مع قادة العالم، واشتباكه بعلم ومهنية مع القضايا الإقليمية والدولية، وكتبه التى ستبقى بعده شاهدة على زمن كانت فيه الصحافة فكرًا ورسالة.
أما ما عدا ذلك - من شهرة عابرة أو ضجيج على الشاشات - فلا قيمة له فى سيرة أى صحفى.
هكذا يُودَّع الكبار: بما أنجزوه، لا بما قالوه عن أنفسهم.