داخل الحفل الذى جرى تنظيمه فى الدوحة، أمس الأول، احتفالًا بإطلاق معجم الدوحة التاريخى، تذكّرتُ المشهد الشهير للفنان سليمان نجيب، وهو يسأل نجيب الريحانى، أو «الأستاذ حمّام»، فى فيلم غزل البنات إن كان ضليعًا فى اللغة العربية أم لا. وابتسمتُ وأنا أتذكّر الاختبارات العبثية التى حاول من خلالها اكتشاف كفاءة المدرّس الذى جاء لتعليم ابنته قواعد اللغة العربية، كما تذكّرتُ عالم المعلوماتية الراحل نبيل على وكتابه الرائد العرب فى عصر المعلومات، الذى صدر عن «عالم المعرفة» فى نهاية التسعينيات، وأبرز من خلاله التحديات التى تواجه اللغة العربية نتيجة ندرة المحتوى العربى على شبكة الإنترنت، فى ظل تسارع التطبيقات اللغوية التى بدأت توافرها الحواسيب الإلكترونية.
لم يعش نبيل على ليشهد الطفرة التى أوجدها الذكاء الاصطناعى، لكنه توقّعها، وظلّ لسنوات يتساءل عن مدى قدرة اللغة العربية على الاستفادة من التحول الرقمى.
وأخيرًا نجحت العاصمة القطرية الدوحة فى مواجهة هذا التحدى، ومن ثم يحق لها أن تفخر بإنجازها الجديد المتمثل فى إطلاق هذا المعجم، الذى يُعد أول معجم تاريخى للغة العربية، لكونه يؤرّخ لألفاظ العربية وتطوّر دلالاتها عبر أكثر من عشرين قرنًا.
وبحسب ما استمعتُ إليه من خبير الحاسبات الدكتور يحيى الحاج، فإن المعجم الذى جرى إطلاقه بالتزامن مع اليوم العالمى للغة العربية واحتفالات العيد الوطنى لدولة قطر، يُعد أول معجم شامل يواكب التحديات اللغوية التى فرضتها تطبيقات الذكاء الاصطناعى، فكلّنا نعرف شكاوى المستخدمين من ضعف أداء اللغة العربية فى تلك التطبيقات مقارنة باللغات الأخرى.
يوفّر هذا المعجم نحو 300 ألف مدخل معجمى، ومدوّنة نصية تقارب مليار كلمة، كما يضم نحو 10 آلاف جذر لغوى، إضافة إلى ببليوغرافيا منظّمة فى قاعدة بيانات مهيكلة تضم أكثر من 10 آلاف مصدر، ما يجعله من أوسع المعاجم التاريخية العربية من حيث التغطية الزمنية والمادة العلمية.
ولم تكن مشاركة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثانى، فى حفل اكتمال المعجم وإطلاقه، سوى إشارة إلى أهمية هذا الحدث بالنسبة للثقافة العربية؛ فقد جاءت استضافت قطر ما يزيد على 300 خبير وإعلامى لمواكبة هذا الحدث الفريد.
استغرق إعداد المعجم ما يزيد على 12 عامًا، بمشاركة مئات الباحثين والخبراء من علماء اللغة وتقنيات الحاسوب من مختلف الجنسيات العربية.
اعتمد هؤلاء منهجًا علميًا دقيقًا فى تتبّع تاريخ الألفاظ العربية، بدءًا من أقدم النصوص الموثّقة، وصولًا إلى الاستعمالات الحديثة والمعاصرة.
فى منشور على منصة «إكس»، ثمّن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثانى البعد الحضارى للمشروع، معتبرًا أن اكتماله يشكّل إضافة نوعية للمسار الثقافى العربى، كما أن مراحل إنجازه تُعد مظهرًا من مظاهر التكامل العربى المثمر.
لم يسبق أن توفّر معجم تاريخى بهذه الدرجة من الاكتمال، غير أن كلمة «الاكتـمال» لا تعنى كما أكد المدير التنفيذى عز الدين البوشيخى وقف عملية البحث والتزويد؛ لأن ما حدث بالفعل هو الانتهاء من تحرير جميع مواد حروف المعجم، واعتمادها ونشرها، فى ظل بناء تأسيسى وهيكل علمى واضح ومسار منهجى يتسم بالمرونة، إذ إن فرصة تحديثه قائمة. ولعلّ ذلك يبرّر عدم ظهوره فى نسخة مطبوعة، باستثناء بعض النسخ التذكارية التى وزعت على الباحثين، لأن الهيئة العلمية فضلت الانتقال إلى مرحلة جديدة تقوم على التحديث المتواصل للمحتوى الرقمى، ورصد الاستعمالات الحديثة، وتعميق البحث المعجمى، ومراجعة المواد عند الحاجة، بما يجعل المعجم -كما يقول البوشيخى- مشروعًا حيًّا ومتجدّدًا، قادرًا على مواكبة تطور اللغة وتحولات استعمالها فى الحاضر والمستقبل.
هناك ميزة رئيسية فى هذا المعجم، ولعلّها الأهم أيضًا، وهى إتاحته فى نسخة إلكترونية مجانية، بهدف تشجيع عمليات البحث واكتشاف قوة اللغة عبر إدماجها فى نسيج الحياة اليومية.
يتتبّع المعجم الوحدة المعجمية منذ أقدم شاهد نصى موثّق لها، وصولًا إلى أحدث استعمالاتها، مع إبراز تحوّلاتها الدلالية والصرفية والاستعمالية عبر العصور، بالاعتماد على مدوّنة لغوية محوسبة ضخمة تُعد الأكبر فى تاريخ العربية.
لخّص رئيس المجلس العلمى لمعجم الدوحة التاريخى، رمزى البعلبكى، القيمة الحضارية لهذا الإنجاز حين اعتبر أن المعجم التاريخى ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة حضارية، لأنه «ما من حضارة تسعى إلى نهضة لغوية، بل إلى نهضة فكرية عامة، إلا وأنجزت معجمًا تاريخيًا لتلك اللغة».
وكلنا نعرف ما تعانى لغتنا العربية من غربة زادت منها مشكلات تعليمها فى المدارس التى أهملتها تمامًا بعد أن أصبحت بلدانًا كثيرة تنظر لها بكثير من الدونية والاحتقار، وكلنا نقرأ يوميًا الاعلانات التى تناصر اللغات الأوروبية كشرط للتشغيل على حساب العربية التى لم تجد من يساندها بعد سليمان نجيب ورغم أنه باشا ارستقراطى فإنه ظل وفيًا للغته حريصًا على تعليم ابنته قواعدها وأصل الكلمات وفصلها.