صوت هند رجب.. حصة أخرى من الألم

الثلاثاء 25 نوفمبر 2025 - 6:35 م

كنتُ من بين المئات الذين أبكاهم فيلم «صوت هند رجب» خلال عرضه، السبت الماضى، فى ختام عروض مهرجان القاهرة السينمائى، رغم أن الواقعة التى يتناولها صارت معروفة؛ سواء لمن تابع الحرب على غزة، أو من تابع أخبار المهرجانات التى عُرض فيها الفيلم وسط ردود فعل متباينة.

وقد استقبل جمهور القاهرة الفيلم بالغضب اللازم، وبالدموع والصمت الذى غمر دار الأوبرا. فعقب العرض انتظرتُ لعدة دقائق، ووقفتُ أتأمل الوجوه التى أعرفها، وقد نزل عليها «سهم الله». فلم تكن لدى أحد رغبة فى الحديث، لا عن الفيلم ولا عن البؤس الذى أكده كنشيد كاشف للعجز وسقطات الضمير الإنسانى.

يعتمد الفيلم الذى أخرجته التونسية كوثر بن هنية على رسالة صوتية حقيقية تلقّاها متطوعو الهلال الأحمر الفلسطينى فى 29 يناير 2024، تفيد بأن الطفلة الفلسطينية هند رجب، البالغة من العمر خمس سنوات، عالقة داخل سيارة تم قصفها خلال الغزو الإسرائيلى المستمر لقطاع غزة.

وانطلاقًا من تلك الإفادة، تبدأ الأحداث التى تدور بالكامل داخل غرفة عمليات الهلال الأحمر فى الضفة الغربية التى تلقّى أفرادها البلاغ. وطوال 90 دقيقة لم تظهر الشاشة أى مكان آخر باستثناء لقطات أرشيفية للحادث، وموقع القصف، ووجوه الشهداء الذين استهدفهم جيش العدو الإسرائيلي. وربما بسبب تضفير التوثيقى بالروائى بدا الفيلم أحيانًا أقرب إلى الدراما التوثيقية منه إلى الروائى، وهى حجة تتجاهل نجاحه فى تقديم سردية متماسكة كشفت شخصيات الأبطال وصراعاتها.

نجح السيناريو فى استثمار تباين ردود الأفعال بين المسعفين، وأبرز اختلاف المواقف باختلاف درجات التراتب الوظيفى؛ فبينما يتحمس المسعف الذى تلقى الإفادة لاتخاذ رد فعل عاجل، يصرّ رئيس الوردية على اتباع الإجراءات حرصًا على سلامة الطاقم الذى يعمل فى أقرب نقطة للحادث. وبين الموقفين، تتجلّى مواقف طبيبة أخرى وأخصائية نفسية عملتا على تهدئة روع هند رجب وطمأنتها بشتى الحجج قبل استشهادها الذى كان متوقعًا.

وبفضل الذكاء البالغ فى استعمال أكثر من مجاز داخل الفيلم، نلتفت إلى قيمة مصدر جديد للأرشيف، هو أرشيف الصوت، الذى استُعمل كوثيقة إدانة واضحة لممارسات العدو، وكأداة أهم من الصورة هذه المرة. وهو أمر يجدد الدعوة للاهتمام بمصادر جديدة للمعرفة التاريخية، يسميها المؤرخ اللامع الدكتور ناصر إبراهيم «المونوغرافية التاريخية» التى تفتح الباب لكتابة تاريخ الوجدان. وبطبيعة الحال فإن قضية فلسطين صارت جزءًا من هذا الوجدان.

لاحظتُ كما لاحظ غيرى لجوء المخرجة إلى حيلة ذكية تكشف رغبتها فى تمرير فيلمها إلى المهرجانات الدولية دون أن تعطى لإسرائيل مبررات أو دوافع للاحتجاج؛ فقد تجاهل الحوار أى ذكر لإسرائيل مكتفيًا بالإشارة إلى ما يرتكبه جيشها من فظائع. وفى مقابل هذا التجريد، أعطى السيناريو علامات جغرافية متعددة تشير إلى مناطق النزاع، بخلاف ما أورده من تسجيلات لواقعة أصبحت معروفة ونالت اهتمامًا إعلاميًا، لكن هذا الاهتمام لم يؤدِّ إلى وقف الحرب.

ومن جهة أخرى، بدا لافتًا أن اللجوء إلى طاقم المسعفين فى الضفة الغربية هو مجاز آخر يشير إلى ضرورة إنهاء الفجوة بين غزة ورام الله والضفة، لأن الدم الفلسطينى واحد.

اعتمدت بن هنية على طاقم تمثيلى مكوّن من خمسة ممثلين: (سجا كلانى – كلارا خورى – معتز ملحيس – عامر حليحل)، أدّوا أدوارهم بحساسية بالغة تنوّعت بين أقصى درجات التوتر واللحظات المشبعة بالعاطفة، وتوترات الصراع بين شروط المسئولية الوظيفية وصور الالتزام الإنسانى. وقد تجلّى ذلك بوضوح فى أداء عامر حليحل لشخصية القائد المكلّف برئاسة نوبة طاقم المسعفين، منحازًا للبيروقراطية وللتنسيق مع الهيئات الدولية للإغاثة ومع جيش العدو، لكن المواجهة مع المسعف الشاب تُظهر تهاوى منطق التنسيق لأنه يعزز الإبادة ويتحوّل إلى أداة لتأكيدها. عُرض الفيلم لأول مرة عالميًا فى المسابقة الرسمية لـمهرجان البندقية السينمائى بدورته الـ82 فى 3 سبتمبر 2025، وحصل على جائزة الأسد الفضى فى هذا المهرجان.

صعدت مخرجته إلى المسرح وقالت لدى تسلّم الجائزة: «إن قصة هند رجب هى قصة مأسوية لشعب بأكمله يعانى من إبادة جماعية ترتكبها حكومة إسرائيلية مجرمة تتصرف بإفلات من العقاب».

استنادًا إلى القيمة الفنية التى يجسدها الفيلم، وليس فقط اعتمادًا على دعمه القضية الفلسطينية، فإننى أتوقع أن يحظى بنجاح كبير عند عرضه فى دور السينما.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة