لم يكن طرح خطة السلام الأمريكية ذات الثمانية والعشرين بندًا مجرد مبادرة تفاوضية، بل لحظة صادمة أعادت إلى الذاكرة الأوروبية واحدة من أحلك محطات القرن العشرين. ففى عام 1938 وقف رئيس الوزراء البريطانى نيفيل تشامبرلين ونظيره الفرنسى إدوار دالادييه فى مدينة ميونخ الألمانية أمام أدولف هتلر وبنيتو موسولينى، ليوافقا –من دون حضور تام للدولة المعنية؛ تشيكوسلوفاكيا– على التخلى عن إقليم «السوديت» أملًا فى تجنب الحرب. لكن الاسترضاء لم يجلب سلامًا، بل مهّد الطريق إلى الحرب العالمية الثانية. واليوم، بينما يتداول الأوروبيون خطة ترامب لمنح روسيا مكاسب إقليمية وسياسية واسعة فى أوكرانيا، يعود شبح ميونخ ليخيّم من جديد، ويذكّر القارة العجوز بأنها قد تدفع ثمن غيابها عن طاولة تقرير مصيرها.
فى جنيف خلال الأيام الماضية، دخلت الولايات المتحدة وأوكرانيا والاتحاد الأوروبى فى مرحلة معقدة من المفاوضات لتعديل الخطة الأمريكية لإنهاء الحرب فى أوكرانيا، والتى أثارت موجة غضب غير مسبوقة عندما تبيّن أنها تميل بشدة لمصلحة موسكو. وقد أعلن الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى أن فريقه نجح مع الجانب الأمريكى فى إدراج «نقاط شديدة الحساسية»، وتم الاتفاق على إطار «محدّث ومُحسّن» يجرى العمل على تطويره.
• • •
أوروبا، التى شعرت بأن مستقبلها يُدار من دونها، دفعت بقوة لإعادة كتابة جوهر المسودة الأمريكية. ووفق تقارير صحف: «دير شتاندرد» و«دى بريس» النمساويتين و«شبيجل» الألمانية و«تلغراف» البريطانية، طالب الأوروبيون بإلغاء البنود التى تمنح روسيا اعترافا فعليا بالسيطرة على القرم ودونيتسك ولوجانسك، وإلغاء فكرة «تجميد خطوط الجبهة» كحدود سياسية، واستبدالها بصيغة تنص على أن «أوكرانيا تلتزم بعدم استعادة أراضيها بالقوة؛ على أن يتم التفاوض على أى ترتيبات حدودية بعد وقف إطلاق النار».
وفى ملف عضوية الناتو، تخلّى الأوروبيون عن النص الأمريكى الذى كان يفرض على كييف تعديل دستورها لمنع الانضمام، واقترحوا صيغة أكثر دبلوماسية تقول: «العضوية تعتمد على إجماع أعضاء الحلف، وهو غير متوافر حاليًا". كما عدّل الأوروبيون بندًا بالغ الحساسية يتعلق بالضمانات الأمنية الأمريكية، فأضافوا عبارة أن تلك الضمانات "تعكس روح المادة الخامسة» من معاهدة الناتو؛ وإن من دون التزامات دفاعية صريحة.
غير أن هذه التعديلات، رغم أهميتها لكييف، قوبلت فى موسكو برفض قاطع؛ فقد أعلن يورى أوشاكوف، مستشار الرئيس فلاديمير بوتين، أن المقترح الأوروبى «غير بنّاء تمامًا»، وأن روسيا لا تزال تعتبر الخطة الأمريكية الأصلية –قبل التعديلات الأوروبية– «الأساس القابل للعمل». موقفٌ يكشف أن الكرملين يرى فى التعديلات الأوروبية انتقاصًا من المكاسب التى اعتقد أنها حُسمت لصالحه على طاولة ترامب.
ويأتى هذا الرفض بينما يواصل بوتين إرسال إشارات بأن موسكو لا ترى نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات؛ ففى اجتماع استعراضى مع قادة الجيش ظهر الرئيس الروسى ببذلة عسكرية مموهة، مؤكدًا أن «أهداف العملية العسكرية فى أوكرانيا يجب أن تُنفّذ دون شروط». الرسالة واضحة: روسيا تريد أكثر من تعديلات جنيف، وأبعد من خطة ترامب، وربما أكثر مما تسمح به موازين القوى الفعلية على الأرض.
• • •
أمام هذا المشهد، تحاول أوروبا –بتأخر مؤلم للأوروبيين– التصرف كقوة مركزية؛ فالمستشار الألمانى فريدريش ميرتس حذّر من «أوهام عن سلام سريع»، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وصفت مخرجات جنيف بأنها «أساس صلب للمفاوضات». أما وزير الخارجية الألمانى يوهان فاديبول فاعتبر أن التعديلات الأوروبية تمثل «تصحيحًا ضروريًا» لمسار انطلق بشكل خاطئ من البداية.
لكن بين حماسة الأوروبيين ورفض الروس وضغط الأمريكيين، يظل السؤال: هل يمكن للقارة أن تنتزع مكانها الحقيقى على الطاولة، أم ستتكرر فيها مأساة 1938 حين كانت القرارات تُصنع فوق رءوسها؟
الدرس الذى تفرضه اللحظة ليس أوكرانيًا فقط، بل أوروبيًّا بامتياز. فإذا قبلت أوروبا تسوية تُفرض على كييف، وتُدار بين واشنطن وموسكو، وتتجاهل مصالح بروكسل، فستجد القارة العجوز نفسها أمام إعادة إنتاج لمعادلة ميونخ: سلامٌ يُكتب بيدين أجنبيتين، ويدفع ثمنه من يُفترض أنهم أطرافه الحقيقيون.
إنها لحظة اختبار؛ إما أن تستعيد أوروبا شجاعتها السياسية، أو تقبل أن يُعاد رسم أمنها من دون وجودها على الطاولة.