x قد يعجبك أيضا

فقاعة الذكاء الاصطناعى.. المالية والتكنولوجية

الجمعة 24 أكتوبر 2025 - 8:55 م

هل نحن متفائلون أكثر من اللازم بمستقبل الذكاء الاصطناعى؟
ما كل هذه الأموال الخيالية التى نسمعها عن هذه التكنولوجيا؟
ما حقيقة تلك التكنولوجيا؟


منذ سنة تقريبا كتبت مقالا بعنوان «الشركات التكنولوجية.. الصعود ثم الانهيار» (بتاريخ 1 نوفمبر 2024)، وكلما أكثرت من التفكير والقراءة والحديث مع الخبراء فى مجال التكنولوجيا وتفحصت الأبحاث الحديثة فى تخصصى كلما زادت مخاوفى أننا قد نشهد انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعى، أعتقد أننى يجب أن أتحدث أيضا مع خبراء فى ريادة الأعمال والاقتصاد حتى أرى الصورة كاملة، لكن فى مقالنا اليوم سنركز على الجانبين التاريخى والتقنى.
• • •
ماذا يعلمنا التاريخ؟
إذا نظرنا إلى التاريخ الحديث سنجد شيئا عجيبا يتكرر، لنرى بعض الأمثلة أولا:
• فى إنجلترا فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر انتشرت شركات بناء طرق السكك الحديدية بشكل كبير، بدأ الناس والمستثمرون يرون أن هذه التكنولوجيا الجديدة (السكك الحديدية) ستغير وجه العالم، وأصبح إنشاء شركة لبناء السكك الحديدية سهلا ميسرا، فوائد البنوك قليلة لهذه المشروعات، وتفاؤل الناس كبير، لكن وبعد عدة سنوات نزلت أسهم السكك الحديدية للأرض، وارتفعت فوائد البنوك، واختفت شركات كثيرة من الوجود بعد إشهار إفلاسها.
• عشرينيات القرن الماضى شهدت انتشارا كبيرا للتصنيع، الذى تنبأ الكثيرون أنه مستقبل العالم المتقدم، خاصة وقد بدأت وسائل الاتصال (التليفون والتلغراف) ووسائل النقل (السكك الحديدية والسفن) فى الانتشار، وبالتالى هذا سهّل عقد الصفقات ونقل البضائع، بدأت شركات كثيرة فى الظهور وبتمويل من البنوك فى تصنيع الكثير من المنتجات، لكن هذه الشركات لم تستطع بيع الكثير من مصنوعاتها وبالتالى لم تسدد ديونها للبنوك، وهذا أثر على بورصة نيويورك وكان أحد الأسباب (وليس السبب الوحيد) للكساد الكبير الذى أثّر على العالم كله بداية من 1929.
• الكثير منا ما زال يذكر فقاعة الدوت - كوم فى نهاية القرن العشرين وبداية الانتشار الكبير للانترنت، تلك التكنولوجيا التى رأى الناس والممولون أنها ستغير وجه العالم، واندفع الكثير من المغامرين إلى إنشاء شركات تعتمد على الانترنت، وكانت التمويلات سهلة ميسرة، والوعود أكبر بكثير من المتحقق، وحدث الانهيار الكبير.


هناك الكثير من الأمثلة فى تاريخنا الحديث متعلقة بالتكنولوجيا والاقتصاد، والنمط الذى نلاحظه فى كل تلك الأمثلة وغيرها هو الآتى:
• ظهور تكنولوجيا جديدة تدهش الناس.
• انعقاد آمال كبيرة على تلك التكنولوجيا ومستقبلها.
• عدم قدرة المستثمرين على «تثمين» تلك التكنولوجيا أو معرفة قدراتها الحقيقية وبالتالى ارتفعت الأثمان مع ارتفاع الطموحات.
• استغلال رواد الأعمال لظهور تلك التكنولوجيا واندفعوا فى إنشاء شركات كثيرة تعمل فى هذا المجال وبدون دراسة.
• ثم يحدث الانهيار عندما يظهر أن الوعود كانت مبالغا فيها جدا وبالتالى ينسحب المستثمرون.
لكن يجب ألا نغفل أن هناك نقطة أخرى يمكن إضافتها للنقاط أعلاه وهى أن هذه التكنولوجيات الجديدة لا تختفى بعد الانهيار، لكنها تأخذ وقتا لتنضج ويفهمها الناس والمستثمرون أكثر، فنحن نستخدم السكك الحديدية والانترنت والتصنيع الآن وبغزارة. الاندفاع الجنونى هو سبب الكارثة لأنه يأتى بتكالب الناس على جنى المال وعدم إضاعة فرصة قد تكون كبيرة لجنى الأرباح، بدون التمهل والتفكير.
لنترك التاريخ الآن وننتقل إلى عصرنا الحالى، والتكنولوجيا التى أدهشت ومازالت تدهش العالم.


• • •
ما لا يعلمه الكثيرون عن الذكاء الاصطناعى
يجب أن نعترف أن الممولين فى الأغلب الأعم لا يعلمون الكثير عن التقدم التكنولوجى إلا ما يقرأونه فى المجلات الاقتصادية أو الموجهة للعامة، أو من المعلومات التى يحصلون عليها من رواد الأعمال الذين إما لا يعرفون الكثير هم أيضا أو يعلمون لكن لا يقولون كل شىء للممولين حتى يحصلوا على التمويل. قد يستعين الممولون ببعض المستشارين فى التخصص المتعلق بالتكنولوجيا المزمع الاستثمار فيها، لكن هذا أيضا لا يكفى، فأنت تريد من يفهم فى التكنولوجيا الوليدة، وفى نقاط قوتها وضعفها، والطريق الذى يسلكه البحث العلمى المتعلق بهذه التكنولوجيا (أى مستقبلها)، وتأثيرها على الناس، وهذا يحتاج جيشا من المستشارين. لنأخذ الذكاء الاصطناعى وهو يمثل التكنولوجيا التى يتوقع الجميع أنها ستغير وجه العالم، ونتكلم عن بعض النقاط التى لا يذكرها الإعلام بكثرة:
• الجيل الحالى من الذكاء الاصطناعى يحتاج كمًا كبيرًا من البيانات لتدريبه (لذلك يسمى بتعليم الآلة)، والمستخدمون لا يدرون شيئا عن صحة هذه البيانات وهل هى كاملة وغير منحازة إلخ. حرف الP فى كلمة (ChatGPT) تعنى «pre-trained» أى سابقة التدريب، ونحن لا نعلم كيف تم تدريب تلك البرمجيات، وقس على ذلك كل الشركات التى تصمم برمجيات ذكاء اصطناعى للمحادثة.
• تعليم الآلة يستهلك كمًا مهولًا من الطاقة لأنها تحتاج أجهزة حاسبات فائقة السرعة، والرد على أسئلة المستخدمين يستهلك كما كبيرا أيضا، ليس مثل التعليم لكن لا يمكن إغفاله. تلك الطاقة ليست مجانية، وليست رخيصة، لذلك أغلب الشركات المصممة لتلك البرمجيات ينتهى الأمر أنها تخسر، لا يعنى هذا أنها لا تكسب أموالا، لكن ما تدفعه فى الطاقة المستخدمة أكثر مما تكسبه، فحتى متى سيصبر الممولون على هذا؟
• الحاسبات فائقة السرعة تستهلك أيضا كما كبيرا من المياه للتبريد إلخ، وهذا مضر بالبيئة.
• برمجيات تعليم الآلة هذه خاصة النوع القوى منها وهو ما يسمى التعليم العميق (deep learning) يعمل جيدا فى مجالات كثيرة، لكن خبراء الذكاء الاصطناعى لا يعلمون على وجه اليقين لماذا هو بهذه الكفاءة، وطريقة «جربتها واشتغلت» لا تنفع فى التقدم التكنولوجى لعدة أسباب: أولا لن يكون عندك طريق واضح للتقدم سوى عمل برمجيات أضخم وبالتالى تحتاج أجهزة أقوى، وبالتالى طاقة ومياها أكثر، وأيضا هنا دراسة حديثة نُشرت هذا العام توضح أن هذه البرمجيات أصبحت لا تتحسن بالسرعة الكافية حتى مع زيادة كم البيانات المستخدم فى التدريب، ثانيا لن تستطيع التنبؤ بسهولة بأخطاء تلك البرمجيات والاستعداد لها، ثالثا لن تستطيع معرفة كم البيانات الذى تحتاجه لتعليم الآلة فى مجال معين، إلا عن طريق التجربة والخطأ، وهذا يجعل مستقبل تلك البرمجيات غير مضمون، على الأقل حتى الآن.


• الكثير من الناس خاصة فى الصحافة العلمية يتكلمون عن الذكاء الخارق الذى يفوق ذكاء البشر، وللوصول له فأنت تريد أولا برمجيات ذكائها عام (Artificial General Intelligence) أى يمكنها التعامل مع مشكلات مختلفة، لكن ما نمتلكه اليوم هو ذكاء اصطناعى خاص، أى متخصصا فى نوع واحد من المشكلات. بعض الباحثين يريدون صناعة «عقل» إلكترونى، أى برمجيات تحاكى عمل العقل البشرى، البرمجيات الحالية هى مجرد تبسيط مخل جدا لعمل العقل البشرى، والذى يتجاهله الكثيرون أننا ما زلنا نجهل الكثير عن عمل العقل البشرى، ناهيك أننا لا نمتلك بعد اختبارا أو قياسا يقول لنا إننا وصلنا إلى الذكاء الاصطناعى العام.
• وهب أننا عرفنا كل شىء عن العقل البشرى، فهل نريد فعلا أن نحاكيه؟ أنت كبشر تنسى، فهل تريد برمجيات تنسى؟ أنت تتحكم فيك عواطفك فهل تريد أجهزة تفعل ذلك؟
أحب أن أدعو القارئ الكريم لقراءة مقال سابق لكاتب هذه السطور بعنوان «الذكاء الاصطناعى الخارق ليس قريبًا» بتاريخ 2 مايو 2025.
• • •
مع أية تكنولوجيا جديدة ينبهر المستثمرون والناس، وترتفع التوقعات، وتكثر التمويلات، ثم تنفجر الفقاعة... ما لم نستعد ونتمهل بدلا من الاندفاع الجنونى نحو جنى أرباح غير مضمونة.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة