غالبا ما يتم الإشادة بالبنية التحتية باعتبارها محركا للإنتاجية والنمو الاقتصادى. ومع ذلك، تتدهور الطرق وتتوقف السكك الحديدية وتظل الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء غير كافية فى كثير من الدول. ويكون المبرر الشائع هو نقص التمويل أو غياب الإرادة السياسية لزيادة الضرائب وتفضيل تقليص الإنفاق.** إدارة الأصول المهملة كمصدر إيرادات للحكوماتلكن للحكومات مصدرين للإيرادات: الضرائب، والدخل غير الضريبى. ويأتى الأخير من إدارة الأصول والالتزامات العامة أى الميزانية العمومية للحكومة. وبينما تحقق الدول الغنية بالموارد دخلا من النفط أو الغاز أو المعادن، فإن الدول التى لا تمتلك مثل هذه الموارد يمكنها أيضا استغلال أصولها المُهملة من خلال إدارتها بطريقة أكثر احترافية.فسنغافورة على سبيل المثال لا تمتلك أى موارد طبيعية، لكنها تمول نحو 20% إنفاقها الحكومى بإيرادات غير ضريبية. وتأتى هذه الإيرادات من عوائد الاستثمار فى الأصول العامة، حيث تولد هذه الأصول نحو 7% من الناتج المحلى الإجمالى سنويا وهو رقم يقترب من إجمالى إيراداتها من ضرائب الشركات.ويعود نجاح سنغافورة إلى عقود من الانضباط المالى والاستراتيجية طويلة الأمد لتستطيع تكوين أحد أكبر صناديق الثروة السيادية فى العالم رغم ندرة مواردها الطبيعية.وتشمل هذه المؤسسات الاستثمارية العامة فى سنغافورة مجموعة تيماسك القابضة التى تدير الأصول والشركات والعقارات، ومؤسسة الاستثمار الحكومية (جى.آى.سى) فى سنغافورة، وسلطة النقد فى سنغافورة التى تحتفظ بالاحتياطيات الأجنبية. وتدير هذه الكيانات بشكل جماعى أصولا تُقدر قيمتها بما يعادل ثلاثة إلى أربعة أمثال الناتج المحلى الإجمالى للبلاد متجاوزة بذلك حتى الصناديق السيادية لكل من النرويج والسعودية.*قيمة الأصول العامة على مستوى العالمتُقدر قيمة الأصول العامة على مستوى العالم بما يعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحلى الإجمالى العالمى، وتشكل الأصول التجارية - مثل العقارات والحصص فى الشركات - نحو نصف هذه القيمة. ومع ذلك، نادرا ما تقوم الحكومات بإحصاء هذه الأصول أو إدارتها بطريقة استراتيجية.وتبرز دول مثل نيوزيلندا، التى تبنت نظام المحاسبة على أساس الاستحقاق قبل عقود، إذ تقوم بتسجيل وتقييم جميع الأصول والالتزامات العامة بأسعار السوق. لكن معظم الحكومات ما تزال تتجاهل جزءا كبيرا من أصولها وخصوصا العقارات، التى تُقدر قيمتها وحدها بما يعادل الناتج المحلى الإجمالى العالمى بأكمله.ويقع جزء كبير من هذه العقارات المُهملة فى إطار البنية التحتية للنقل مثل السكك الحديدية والموانئ والمطارات والمناطق الصناعية المهجورة. ويمكن أن يعزز تطوير هذه المناطق الثروة العامة بشكل كبير ويسهم فى تجديد المدن.*تجارب هونج كونج وهامبورج وكوبنهاجنتعد شركة مترو هونج كونج مثالا نجاحا على ذلك. استلهمت الشركة نماذج السكك الحديدية اليابانية وقامت ببناء شبكة خطوط مترو تعادل شبكة مترو نيويورك دون أى تمويل ضريبى. وبدلا من ذلك، استغلت حقوق تطوير الأراضى المحيطة بالمحطات، حيث شكلت عائدات العقارات نحو 40% من دخلها السنوى منذ تسعينيات القرن الماضى. وقد حول هذا النموذج، المعروف باسم «السكك الحديدية زائد العقارات»، البنية التحتية إلى استثمار ممول ذاتيا.وبالمثل، حولت مدينتا هامبورج فى ألمانيا وكوبنهاجن فى الدنمارك البنية التحتية المهجورة فى الموانئ إلى مناطق حضرية مزدهرة دون الاعتماد على أموال دافعى الضرائب. فقد أنشأت هاتان المدينتان صناديق ثروة حضرية لإدارة هذه الأصول وتطويرها بشكل احترافى.فى هامبورج، قامت الشركة المملوكة للمدينة «هافن سيتى» بإعادة تطوير منطقة ميناء تبلغ مساحتها 2.4 كيلومتر مربع، لتوفّر 7 آلاف وحدة سكنية ومساحات تجارية تتسع لـ 35 ألف شخص بالإضافة إلى مدارس وجامعات وقاعة حفلات موسيقية بارزة.أما صندوق الثروة الحضرية فى كوبنهاجن فقد أعاد توظيف ميناء قديم وموقع عسكرى سابق، بمساحة إجمالية تعادل ضعف مساحة مشروع هامبورج. وتضمن مشروع تطوير هذه الأراضى إنشاء أكثر من 33 ألف منزل جديد وتوفير 100 ألف وظيفة، إلى جانب تحسينات كبيرة فى البنية التحتية، شملت مد خط مترو وإنشاء جامعة وحدائق جديدة وكل ذلك بتمويل ذاتى من عائدات المشروع نفسه.ولا تقتصر فوائد هذه التطورات على تعزيز الاقتصاد وخلق فرص للقطاع الخاص، بل تشمل أيضا زيادة المعروض من المساكن، وتعزيز الحراك الاجتماعى، وتحسين جودة الحياة الحضرية وهى عناصر أساسية لتحقيق الازدهار طويل الأمد.** مزايا تنويع مصادر الدخل عندما تنوع الحكومات مصادر دخلها بعيدا عن الضرائب، فإنها تقلل المخاطر المالية وتزيد مرونتها الاقتصادية. وفى وقت يبحث فيه الكثيرون عن طرق لتمويل الاستثمارات الحيوية، فإن النهج القائم على الميزانية العمومية يوفر حلا قويا وفعالا.إن التركيز على صافى الثروة - أى الفارق بين الأصول والالتزامات العامة – يتيح للحكومات إدارة مالية أفضل ويشجع عليها، بخلاف القواعد المالية المعتمدة على الدين، والتى تقدم صورة ناقصة عن الوضع المالى الحقيقى.فمن دون فهم شامل للميزانية العمومية الكاملة، تخاطر الحكومات بضعف الاستثمار، وسوء تخصيص القروض، وهدر الموارد.ومن المهم أن نلاحظ أنه إذا استُخدم الدين لتمويل الاستهلاك من أجل مكاسب سياسية قصيرة الأجل، بدلا من توجيهه إلى استثمارات إنتاجية، فإنه يتحول إلى عبء على الأجيال المقبلة.إن العدالة بين الأجيال تقتضى أن يكون الاقتراض الحالى موجها لبناء أصول تعود بالنفع على مواطنى الغد لا لخدمة مصالح ناخبى اليوم فقط.ومن خلال تحديد رقم مستهدف لصافى الثروة، يمكن للحكومات تحفيز التحول نحو استثمارات أكثر ذكاءً، وطويلة الأمد فى مجالات مثل البنية التحتية والإسكان والابتكار، مما يرسى الأساس لتحقيق نمو مستدام فى المستقبل.إن ضمان الازدهار المستدام يتطلب من الحكومات تجاوز الحلول القصيرة الأجل، والنظر استراتيجيا إلى ميزانياتها العمومية. فإدارة الأصول والالتزامات العامة بفاعلية أكبر ليست مجرد مسألة محاسبية، بل واحدة من أكبر الفرص غير المستغلة لإطلاق الإمكانات الاقتصادية.ويمكن لصانعى السياسات من خلال تبنى نهج قائم على صافى الثروة، تمويل مشاريع البنية التحتية، وتقليل الاعتماد على الضرائب، وإنشاء مدن مريحة للحياة ومجهزة للمستقبل.
مقالات اليوم عماد الدين حسين صلاح منتصر.. الإنسان والزوج.. والصحفى المستقل عمرو حمزاوي وقف الإبادة وتجاوز الإلغاء.. شروط التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين محمود قاسم المجنونة أسامة غريب قرحة فى المعدة بسمة عبد العزيز المَنبَع محمد زهران فقاعة الذكاء الاصطناعى.. المالية والتكنولوجية صحافة عربية الضفة الغربية فى مواجهة غول الاستيطان قضايا تكنولوجية هل تمهد الصين لثورة جديدة فى الذكاء الاصطناعى العصبى؟
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك