x قد يعجبك أيضا

الضفة الغربية فى مواجهة غول الاستيطان

الجمعة 24 أكتوبر 2025 - 8:20 م

فى الوقت الذى ينشغل فيه العالم بأزماته الداخلية وحروبه الإقليمية، تمضى إسرائيل نحو تنفيذ مشروعها الأقدم، ابتلاع ما تبقى من الضفة الغربية تحت شعار فرض السيادة الإسرائيلية، عبر مشروع استيطانى يمزق ما تبقى من أراضى الضفة الغربية.
بالرغم من التعهدات الدولية، وضمن ذلك وعود أمريكية سابقة بتجميد مشروع إسرائيل بفرض سيادتها على الضفة، يُصادق الكنيست الإسرائيلى على مشاريع قوانين الاستيطان وضم الضفة الغربية وفرض السيادة على مستوطنة معاليه أدوميم، بقراءة تمهيدية. هذا التوجه ينسف كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية التى لم تحترمها إسرائيل يوما منذ توقيع اتفاق أوسلو قبل أكثر من ثلاثة عقود. هذا القانون ما هو إلا تمهيد لتوسيع الاستيطان وشرعنته، وترسيم لخطوات متتابعة تعتمد أسلوب الضم التدريجى، أى فرض السيطرة على أجزاء متفرقة إلى أن يكتمل المشهد الكبير بضم الضفة الغربية كاملةً، سواء قبل العالم ذلك أم لم يقبل. وهكذا، يتنافس اليمين الإسرائيلى المتطرف على من يقدم المشروع الأكثر تطرفا، فى حين يكتفى الوسط الإسرائيلى بالجدال حول التوقيت لا المبدأ، وكأن الضم بات أمرا مفروغا منه.
لا أعلم لماذا الكثير منا متفاجئ بما يحدث، فإسرائيل لم تتوقف يوما عن فكرة السيادة على الضفة الغربية. فمنذ اتفاق أوسلو عام 1993، لم تتوقف عن بناء المستوطنات، رغم التعهدات الواضحة بتجميدها. لم تكن هذه الاتفاقيات يوما طريقا نحو السلام، بل كانت غطاءً زمنيا استغلته إسرائيل لتثبيت وجودها الاحتلالى فى الضفة.
والنتيجة اليوم واضحة، خارطة ممزقة، ومدن فلسطينية محاصرة، ومستقبل سياسى فوضوى. والسيناريو الأكثر ترجيحا اليوم فى مواجهة ردود الفعل العالمية الرسمية، هو تجميد جزء من القانون وتمرير آخر بالتدريج، يبدأ من القدس وضواحيها مثل معاليه أدوميم. بهذا الأسلوب، تضمن إسرائيل توسيع وجودها دون أن تتحمل كلفة سياسية أمام العالم، بينما تتآكل إمكانية قيام دولة فلسطينية يوما بعد يوم.
أمام تسارع قوانين الاستيطان وسرقة الأرض، وفى غياب استراتيجية فلسطينية واضحة واستمرار الانقسام السياسى، تجد السلطة الفلسطينية نفسها أمام اختبار وجودى لا سياسى فقط. فالعجز عن مواجهة الاحتلال فى الميدان، واستمرار الانقسام، يجعلان الموقف الفلسطينى أكثر ضعفا من أى وقت مضى.
لذلك، المطلوب اليوم ليس مجرد ردود دبلوماسية، بل إعادة صياغة شاملة للسياسة الفلسطينية على المستويين الداخلى والخارجى، وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية. فلا يمكن مواجهة مشروع استيطانى بعقل سياسى منقسم و قاعدة شعبية متهالكة. يجب أن تكون المصالحة الوطنية أولوية مطلقة، لأنها تمثل المدخل الوحيد لمقاومة الخطط الإسرائيلية ولتوحيد القرار. فوحدة الموقف الفلسطينى تعنى توحيد أدوات النضال، من المقاومة الشعبية إلى الدبلوماسية الدولية. فكل يوم يمر دون استراتيجية وطنية شاملة هو يوم يُمنح للاحتلال فرصة جديدة لتوسيع وجوده وتثبيت وقائعه.
إن تعقيد المشهد الفلسطينى لا يقتصر على المخططات الإسرائيلية والصمت الدولى، بل يمتد إلى داخل النسيج الفلسطينى نفسه الذى يرفض مواجهة حقيقة أنه هو أيضا جزء أساسى من هذه التعقيدات و كأننا نتأمل لوحة سوريالية غير مفهومة تصرخ بالتناقضات. حسب إحصائيات الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى (PCBS) فى عام 2023، يعمل نحو 22-25 ألف فلسطينى فى بناء المستوطنات. يجد العامل الفلسطينى نفسه، يوميا، يشارك فى تشييد أهم العقبات فى طريق تحرير الارض، فيبنى منازل المستوطنين، ويمد الطرق، ويزرع الوجود الاستيطانى فى الأراضى التى يمنع القانون الدولى تشييدها عليها. هذا التناقض يكشف عن التكلفة الباهظة للتمسك بالمبادئ. ففى ظل عجز سوق العمل الفلسطينية عن توفير فرص عمل مستدامة وكريمة، يصبح التنازل عن مبدأ المقاطعة والمقاومة خيارا صعبا ولكنه مريح اقتصاديا للكثير من العمالة الفلسطينية. وللأسف هذا التنازل، مهما كانت دوافعه المعيشية، هو جزء من المشكلة، الحرية لها ثمن، ولا يمكن للإنسان التمسك بمبادئه، ما لم يستطع تحمل كلفة ذلك. فإما أن تقاطع وتقاوم، وتدفع ثمن تمسكك بمبادئك فى مواجهة واقع الاحتلال، أو تتنازل عن المبدأ من أجل حياة تحت الاحتلال وتثبيت المشروع الاستيطانى الذى يلتهم أرضك. هذا التناقض الصارخ يمثل إحدى الثغرات المؤلمة التى يستغلها الاحتلال لتعميق وجوده، ليس فقط بالحديد والنار، بل عبر الاقتصاد والحاجة.
ما يجرى فى الضفة الغربية ليس مجرد نزاع على الأرض، بل هو اختبار لعدالة العالم. مادام ينظر العالم إلى القضية الفلسطينية بوصفها مجرد «نزاع على الأرض»، فلن يكون هناك حل حقيقى. ومحاولة اختزال القضية الفلسطينية فى نزاع عقارى بين طرفين هو تكرار مأساوى لما حدث مع شعوب أُبيدت منذ تم استيطان أراضيها تحت شعارات التمدن، كما جرى مع الهنود الحمر فى التاريخ الأمريكى.
القضية ليست خلافا جغرافيا يمكن تسويته بخطوط على الخريطة، بل هى قضية وجود وهوية وحق تاريخى مغتصب. إسرائيل لن تكتفى بتقويض حلم الفلسطينيين بالحرية، بل ستهدم كل ما تبقى من مصداقية القانون الدولى. وستستمر فى انتهاكاتها ما دام القانون الدولى يغمض عينيه عنها، وما دام العالم يكتفى ببيانات الشجب والاستنكار دون رد فعل.
فلسطين ليست صفحة فى كتاب التاريخ لتُطوى، بل وطنا حى وشعبا ما زال يقاوم محاولات محوه من الجغرافيا والذاكرة معا. سيبقى الفلسطينيون وحدهم فى مواجهة غول الاستيطان، يدافعون عن وجودهم وعن حقهم فى أرضهم التى يحاول الاحتلال تحويلها إلى خرائط بلا أصحاب، بينما يتواطأ الصمت الدولى مع الاحتلال فى قتل العدالة. ومهما اشتد ظلام الاحتلال، يبقى فى هذه الأرض نور من صمود لا ينطفئ، وإرادة تعرف طريقها إلى الفجر مهما طال الليل.


آمال العرفى الرطروط
جريدة القدس الفلسطينية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة