كانت تجربة فريدة عشتها باستعادة رؤية فيلم «رسائل البحر»، من تأليف وإخراج داود عبد السيد، فى سينما زاوية، بعد 15 عامًا من مشاهدتى للفيلم، وكنت قد كتبت ونشرت عنه مقالًا طويلًا فى عرضه الأول، ثم نشرت المقال بعد ذلك فى كتابى «داود عبد السيد: سيرة سينمائية» الصادر عن دار ريشة.
ما أدهشنى – فى الاستعادة الجديدة – هذا الحضور الكبير من الشباب، وأعتقد أن معظمهم قد شاهد الفيلم فى «الفضائيات» أو على «مواقع الأفلام»، ولكنهم كانوا يتابعون الأحداث فى صمت وشغف، وصفّق بعضهم بعد نهاية الفيلم.
تنبّهت أيضًا أننى أكتشف الجديد فى فيلم درسته بالتفصيل من قبل، بل بدا لى فيلم «رسائل البحر» عملًا ساحرًا، رغم بنائه غير التقليدى، ومدته الزمنية الطويلة، وهذا حال أفلام داود عبد السيد عمومًا، التى تصمد أمام اختبار الزمن والقيمة، وهو الذى صمّم ألا يصنع أفلامًا يمكن أن يحرقها البلاسير على المتفرج، بعد أن سمع نكتة عن بلاسير حرمه المتفرج من البقشيش، فهمس البلاسير فى أذن المتفرج فى بداية الفيلم قائلًا: «على فكرة.. الطبّاخ هوّ القاتل!».
«رسائل البحر»، كما رأيته بعد كل تلك السنوات، يكرّر اختبارات داود الصعبة لشخصياته، فى محاولة للخلاص الفردى، بعد أزمة وألم ومخاض، ولكن فيه أيضًا رثاء لأحوال الإسكندرية الجميلة، وهى تتعرض لهجمةٍ يقودها سيد مرزوق جديد، يسمّيه داود الحاج هاشم، ويلعب دوره صلاح عبد الله.
تتقاطع أزمة يحيى (آسر ياسين) الذى يتهته بما يذكرنا بتعثّرات نرجس (فاتن حمامة بطلة "أرض الأحلام")، مع هذه الهجمة لهدم منزل الذكريات، وبناء مول بدلًا منه، بما يذكرنا ببيع منزل الشيخ حسنى.
كان فى «الكيت كات» أيضًا «معلّم» يشترى ليهدم ويمتلك ويسيطر، مثل السادة المرزوقين الكثيرين فى أفلام داود، بل إن فيلمه الأول «الصعاليك» كان يدشّن بذرة هؤلاء السادة الذين سيمتلكون المدينة. وكأنها فيلم واحد طويل بتنويعات مختلفة، تلك هى أفلام داود. وفى «رسائل البحر» سينتقل بطلنا يحيى، الطبيب الفاشل والصياد الحالي، من المراقبة إلى التورط، ومن الخوف إلى التجربة، وسينقذه الحب مثل كل أبطال داود، ولكن بعد اختيار وتجربة وألم حقيقيين، بسبب تجربة مضطربة مع نورا (بسمة).
فى أول الفيلم يخرج يحيى من القاهرة إلى الإسكندرية، وفى المشهد الأخير يخرج يحيى مطرودًا من شقته إلى البحر مع نورا، وبين الخروجين يدخل يحيى وكل الشخصيات فى قلب التجربة، وعليهم أن يختاروا وجوديّا مثل كل أبطال داود: يحيى يتمسك بـ«نورا» رغم كل شىء، وهى تختار التحرر من زواج الجوارى، وقابيل (محمد لطفى) يختار ألا يقتل أحدًا، وكأنه يتمرد على اسمه وتاريخ الإنسانية، ثم يختار ألا يُجرى عملية تفقده ذاكرته، ويعتمد على بيسة (مى كساب) فى مواجهة النسيان، أما فرنشيسكا (نبيهة لطفى) وابنتها كارلا (سامية أسعد)، فيختاران ترك الإسكندرية بعد زحف الجراد.
كل شخصية لها مظهر يختلف عن جوهرها: يحيى لم يكن هشّا كما كان يبدو، وبسمة لم تكن عاهرة محترفة كما ظن يحيى، وقابيل رومانسى وطيّب على عكس مظهره ومهنته، و«بيسة» امرأة عاشقة وليست فتاة لعوبًا كما ظهرت فى صالة العرض. والحب هو الخلاص فى كل أفلام داود، ولذلك سينقذ الحب يحيى من شرنقته، وسينقذ قابيل من النسيان.
لكن حضور البحر كقوة قاهرة ومسيطرة، تمنح الرزق (السمك)، وتنقل الرسائل الغامضة داخل زجاجات، كل ذلك منح الفيلم مستوى ميتافيزيقيًا واضحًا، وجعل يحيى ممثلًا للإنسان نفسه فى علاقته مع قوة عظمى، وكأننا من جديد أمام رحلة «يحيى المنقباوى» الذى قبل المهمة الصعبة فى فيلم «أرض الخوف»، ثم ضاعت منه الخيوط، وانقطعت عنه الرسائل.
يحيى الصياد لن يفلح أيضًا فى فك رموز الرسائل، وستقول له «نورا» إنه يكفى فقط أن البحر قد اهتم بأن يرسل لنا رسالة. هنا ينقل داود المسئولية إلى اختيار وإرادة شخصياته، فالرسائل ليست بديلًا عن الفعل والتجربة الإنسانية، الرسائل داخل الشخصية، فى اكتشافها لذاتها وقدراتها، وفى فك عقدة لسانها وعواطفها وجسدها، وفى تحرير الشخصيات من أغلالها الداخلية.
هذا هو جوهر مشروع داود بتنويعات مختلفة، أبطاله عاديون يحاولون أن يكتشفوا ما فى داخلهم، ولا توجد نهاية أو انتصار كامل أبدًا، وإنما «لحظات استنارة»، مثل برق خاطف.
نحن هنا، مثل كل نهايات أفلام داود، لا نغلق القوس؛ فرغم أن يحيى ونورا قد حسما خيار الحب، إلا أنهما فى قارب متأرجح، وتحيط بهما أسماك نافقة، بسبب ديناميت الحاج هاشم.
سيفشل يحيى وكل من سألهم فى فك رموز رسالة جلبها البحر، ولكنه سيخرج من الشرنقة إلى المدينة، ومن الشقة والبار إلى البحر، وسيختبر معنى الصداقة والحب والوفاء، وسنرى ظهورًا متقطعًا للسلطة ممثلة فى رجال الشرطة.
سيتعرض يحيى للضرب، وسيُقبض عليه، ثم يخرج، وستتكرر صورة الكلابشات التى شاهدناها فى «البحث عن سيد مرزوق»، وسنتذكر فجأة أن صلاح عبد الله الذى لعب دور الحاج هاشم، هو نفسه من لعب دور المخبر فى فيلم «مواطن ومخبر وحرامى»، وسنرى يحيى بهذا المعنى مواطنًا جديدًا من مواطنى أفلام داود، الذين يبدأون بالمراقبة، ثم يتورطون حتى النهاية.
فى أحد أفضل وأهم مشاهد الفيلم يصرخ يحيى صرخة وجودية فى مواجهة البحر الهائج، بما يذكرنا بصرخة جعفر الراوى (نور الشريف) فى فيلم «قلب الليل»، ولكن سرعان ما يسترد يحيى بعض الطمأنينة والأمل، لأن البحر قد اهتمّ، ولأن يحيى اكتشف داخله بعض القدرة، ولأنه قد يعثر مستقبلًا على من يترجم الرسالة.
هذه أرض الخوف، والتجربة، والغموض؛ لذلك نرى غموض الموسيقى، وغموض «نورا»، وغموض الرسالة. ولكن الغموض حافزٌ على الفعل، وبهجة فى اكتشاف المعرفة، وحلم للسعى الدائم، دون شرط الوصول.