يشهد العالم حاليًا صراعًا محتدمًا على ريادة الذكاء الاصطناعى (AI) بين الولايات المتحدة والصين. هذا الصراع دفع عددًا من الخبراء وكُتاب الرأى إلى تناول بعض المؤشرات القوية على ضعف النموذج الأمريكى الراهن للتطور التكنولوجى بسبب عوائق البنية التحتية والقيود على المواهب المهاجرة. فى المقابل يوضح الخبراء مواصلة الصين تعزيز تفوقها من خلال دمج صناعة الذكاء الاصطناعى مع جهاز الأمن القومى، والسرعة فى التنفيذ، وامتلاك عدد ضخم من الأدمغة المبدعة. ولتجنب فقدان الريادة لصالح بكين، يدعو الخبراء وكُتاب الرأى واشنطن إلى تبنى «صفقة كبرى» مع القطاع الخاص وإطلاق مبادرات طموحة مثل «مهمة التكوين» (Genesis Mission) لإنقاذ تفوقها التكنولوجى من المارد الصينى.. نعرض ما ورد فى المقالات فيما يلى:
يوضح الكاتبان بن بوكانان وتانتوم كولينز فى مقالهما المنشور فى مجلة «فورين أفيرز»، بعنوان «الصفقة الكبرى للذكاء الاصطناعى: ما تحتاجه أمريكا للفوز بسباق الابتكار»، بأن ريادة الولايات المتحدة فى الذكاء الاصطناعى لا يمكن تجاوزها، بدليل تفوق شركاتها مثل «أنثروبيك» و«جوجل» و«أوبن إيه أى» فى تقييمات القدرات العامة للتقنية. ومع ذلك، هناك مؤشرات قوية تدل على أن النهج الأمريكى فى تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعى أوشك على الوصول إلى الحدود القصوى مما يهدد هيمنة الولايات المتحدة لصالح منافسين مثل الصين.
يُرجع الكاتبان محدودية تأثير النهج الأمريكى إلى عدة عوامل هى:
1- عجز البنية التحتية: تحتاج الولايات المتحدة إلى إنتاج 50 جيجاوات من الطاقة الجديدة للذكاء الاصطناعى بحلول عام 2028 (ما يعادل استهلاك الأرجنتين بأكملها اليوم)، وإلا سيتوقف التوسع فى البنية التحتية للذكاء الاصطناعى.
2- عوائق حكومية وتنظيمية: لا يزال بناء مرافق الطاقة الجديدة مقيدًا بشبكة كبيرة من اللوائح الحكومية والمرافق، مما يفرض تأخيرات ضخمة فى ربط مصادر الطاقة الجديدة ومراكز البيانات بالشبكة.
3- مخاطر النقل إلى الخارج: إذا فشلت الولايات المتحدة فى بناء قدرة طاقة محلية كافية، فقد تضطر الشركات الأمريكية إلى نقل تطوير مرافق الذكاء الاصطناعى الحساسة استراتيجيًا إلى الخارج (مثل مناطق الخليج الغنية بالنفط)، مما يشكل مخاطر أمنية ضخمة.
4- الاعتماد على المهاجرين: تعود ريادة الولايات المتحدة فى سباق الذكاء الاصطناعى بشكل كبير إلى استقطاب الخبراء من جميع أنحاء العالم. بالتالى ستؤدى سياسات الحكومة الحالية المقيدة للهجرة إلى عواقب كارثية منها، اتجاه هؤلاء الخبراء إلى الصين.
فى المقابل، يعرض الكاتبان الجهود الصينية لمواصلة الصعود فى سباق الذكاء الاصطناعى، إذ تتميز بكين بنجاحها فى دمج صناعة الذكاء الاصطناعى لديها مع جهاز الأمن القومى (استراتيجية الاندماج العسكرى ــ المدنى)؛ حيث تدعم شركات الذكاء الاصطناعى الكبرى مثل تينسنت «Tencent» الركائز الأساسية لجيش التحرير الشعبى.
فى هذا الصدد، تعرض هيئة تحرير جريدة «The Economist» فى مقال بعنوان «على ماذا ستهيمن الصين لاحقًا؟»، أسباب هيمنة الصين فى مجالين هما المركبات الذاتية، والأدوية الجديدة. ترجح هيئة التحرير أن أسباب الهيمنة تعود إلى امتلاك الصين مخزون كبير من العقول البشرية المبدعة، وقاعدة تصنيع واسعة، إضافة إلى السرعة فى التنفيذ دون معوقات بيروقراطية، بينما يحدث العكس فى واشنطن كما ذكر الكاتبان بوكانان وكولينز سابقا؛ إذ تشاركهما الرأى هيئة التحرير موضحة أن هيمنة أمريكا مهددة بسبب العداء للمهاجرين الموهوبين وتقليص التمويل للأبحاث التكنولوجية.
• • •
يقترح الكاتبان بوكانان وكولينز حلًا لتجنب تآكل هيمنة أمريكا، حيث يجب على واشنطن تبنى طرق جديدة تعتمد على دعم متبادل أوثق بكثير بين القطاع الخاص والدولة، أو ما أسماه المقال «صفقة كبرى» بين صناعة التكنولوجيا والحكومة.
بمعنى أوضح، يجب على الحكومة أن تقدم للقطاع الخاص ما يلى:
1- توفير أو تسهيل الموارد اللازمة للطاقة والبنية التحتية (عبر تسريع التراخيص والإجراءات التنظيمية).
2- ضمان تدفق المواهب الدولية (عبر سياسات الهجرة المواتية).
3- توفير مساعدات أمنية لمكافحة التجسس الأجنبى وجهود سرقة الابتكارات بما فى ذلك سرقة «أوزان النماذج» (model weights).
فى المقابل على القطاع الخاص أن يساعد الدولة على فهم الذكاء الاصطناعى ونشره بشكل فعال فى المجالات العسكرية والاستخباراتية.
إضافة إلى العمل المشترك لتقييم المخاطر (مثل استخدام الذكاء الاصطناعى لتوليد مسببات الأمراض) و(تطوير معايير السلامة والأخلاقيات.
• • •
لكن هناك بارقة أمل فى استمرار احتفاظ واشنطن بمكانة الريادة لمجال الذكاء الاصطناعى حتى مع الصعود الصينى؛ إذ يشير الكاتبان نافين جيريشانكار وكريس بورخيس فى مقالهما المنشور، بعنوان «مهمة التكوين: هل يمكن لرهان الولايات المتحدة على الذكاء الاصطناعى أن يُنعش العلوم الأمريكية؟»، فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى مبادرة فيدرالية أطلقها ترامب، فى 24 نوفمبر 2025، وهى مهمة التكوين (Genesis Mission) بهدف مضاعفة الإنتاجية العلمية للولايات المتحدة فى غضون 10 سنوات باستخدام الذكاء الاصطناعى (AI). تُصور الإدارة الأمريكية هذه المبادرة على أنها «مشروع مانهاتن» لهذا الجيل، إذ يتضمن التعبئة الوطنية لتسريع الاكتشاف العلمى وتعزيز الأمن القومى واستعادة الريادة التكنولوجية الأمريكية فى مواجهة المارد الصينى.
إن هذا المشروع التكنولوجى يهدف إلى بناء «منصة أمريكية للعلوم والأمن» (American Science and Security Platform)، وتتلخص وظيفة هذه المنصة فى توفير بنية تحتية تكنولوجية متكاملة تشمل موارد حوسبة عالية الأداء، وأطر عمل لنمذجة الذكاء الاصطناعى، ونماذج أساسية علمية، وأدوات تعمل بالذكاء الاصطناعى، إضافة إلى امتلاك أكبر مجموعة فى العالم من البيانات العلمية تم بناؤها على مدى عقود من الاستثمارات الفيدرالية.
لكن ما هى آلية عمل هذه المنصة؟ ستعتمد المنصة على موارد وزارة الطاقة (DOE) وشبكة المختبرات الوطنية لتدريب النماذج الأساسية العلمية وإنشاء أنظمة ذكاء اصطناعى جديدة لاختبار الفرضيات، وتصميم التجارب، وتحليل النتائج، وضمان سير عمل الأبحاث بشكل يتجاوز قدرات الباحثين البشر.
ما هى أولويات هذا المشروع؟ تعتبر مبادرة «مهمة التكوين» الذكاء الاصطناعى، والحوسبة الكمومية، والرقائق من المجالات ذات الأهمية الوطنية وصاحبة الأولوية.
فى الختام، يتضح أن الصراع على ريادة الذكاء الاصطناعى ليس مجرد منافسة تكنولوجية، بل هو سباق جيوسياسى يحدد شكل القوة الاقتصادية والأمنية العالمية فى العقود القادمة. فبينما يواجه النموذج الأمريكى القائم على التحرر الكامل للقطاع الخاص تحديات جسيمة، أبرزها عجز البنية التحتية، والقيود التنظيمية، والعداء للمواهب المهاجرة، تواصل الصين تعزيز تفوقها من خلال دمج أنظمة الذكاء الاصطناعى مع جهاز الأمن القومى ومنح الأولوية للابتكار فى قطاعات حيوية مثل المركبات الذاتية والأدوية الجديدة.
لمواجهة هذا التهديد، يتفق كُتاب الرأى على أن الحل يكمن فى إبرام «الصفقة الكبرى» بين الدولة والقطاع الخاص، حيث تلتزم الحكومة بتسهيل موارد الطاقة وتقوية البنية التحتية، وتأمين تدفق المواهب الدولية، وتوفير المساعدات الأمنية لحماية أسرار الابتكار (كأوزان النماذج). وفى المقابل، يلتزم القطاع الخاص بدمج الذكاء الاصطناعى فى جهاز الأمن القومى والمشاركة فى صياغة معايير السلامة والأخلاقيات.
إعداد وتحرير: وفاء هانى عمر
النصوص الأصلية:
1- مجلة فورين أفيرز
https://tinyurl.com/5n6f48ae
2- جريدة «The Economist»
https://tinyurl.com/mvu9hb44
3- مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)
https://tinyurl.com/26ytr9sx