مزاج الأمم وشخصية الشعوب

الإثنين 20 أكتوبر 2025 - 7:07 م

عندما كنت أرقب ذلك التجمع غير المسبوق من قادة الدول وممثلى شعوبها فى منتجع شرم الشيخ المصرى انتابنى شعور قوى بأننا ننتمى جميعًا إلى مخزون إنسانى واحد رغم اختلاف الثقافات وتباين الهويات وتعاقب الحضارات، إلا أن ما نشهده يؤكد ولاشك وحدة الجنس البشرى وأن لدى الإنسان فى كل مكانٍ وزمان نوازع ثابتة يتقدمها الحذر والخوف ويمضى ورائهم ذلك الشعور الغامض بأننا جميعًا فى قاربٍ واحد يبحث عن مرفأ آمن يلوذ به للخلاص، وهنا ألفت النظر إلى أن أمزجة الشعوب مختلفة وفقًا لهويتها وتراثها وموقعها الجغرافى فالدول التى تعتمد على ثقافة النهر cult of river تختلف عن تلك التى توصف بأنها ثقافة الصحراء cult of desert وهذه ليست تفرقة حدية ولكنها توضح دائمًا الفوارق المعتادة بين الأمزجة المختلفة للشعوب المعاصرة، ونحن نظن أيضًا أن مزاج الأمم وشخصية الشعوب يرتبطان معًا بالزمان والمكان والسكان فى كل فترة تاريخية مع طبيعة المكونات الأساسية للبشر فى البقاع المختلفة من عالم اليوم، ولو تأملنا من كانوا يجلسون على المقاعد العليا فى مؤتمر شرم الشيخ للسلام بمصر الذى كان نجمه المسيطر هو الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بكل ماله وما عليه حيث كان يبدو وكأنه شيخ قبيلة العالم يوزع الآراء والأفكار ويقلب القرارات بل والقفشات الساخرة أيضًا، ولقد تساءلت بينى وبين نفسى هل هذا الرئيس يمثل شريحة كبيرة من المجتمع الأمريكى فهو لا يحترم إلا منطق القوة سواء كان ثراءً فاحشًا أو قوة عسكرية أو تقدمًا علميًا هائلاً، وشعرت فى النهاية أنه شأن معظم الأمريكيين يعشق الأقوى ويجنح نحو السيطرة ويحكمه إلى حدٍ كبير شعور ذاتى بالتميز والاختلاف عن الغير، والآن دعنا نبحث فى بعض العوامل المؤثرة فى مزاج الأمم وشخصية الشعوب ونذكر منها الآن النقاط التالية:
أولاً: إننى أشتم فى حذر شديد بعض المحاولات الخبيثة لترجمة التضامن الإسلامى ودمجه فى مفهوم الوحدة العربية كما لو أنه انتقاء ذاتى المقصود منه الإثارة ورفع درجة الاستعداد الدينى لدى كافة الأطراف، فالحديث المتكرر حاليًا حول التضامن العربى الإسلامى فى مواجهة التيار الذى يرى أن كل ما يجرى على الأرض هو ملك لأصحابها وليس بالضرورة تخصيصًا محددًا لفرد من الناس أو جماعة من البشر وهذه نظرة شائعة تتصف بدرجة من الغموض جعلت من الصراع بين الأطراف المختلفة حول مساحة معينة من الأرض بدءًا من منتجع صغير وصولاً إلى دولة كبرى أمرًا محفوفًا بالمخاطر يحتاج فى الغالب إلى درجة عالية من فهم الآخر والارتقاء إلى مكانته.
ثانيًا: إن الأغلب الأعم من المشكلات المعاصرة بين الدول إنما تقع تحديدًا بين الجيران ذلك أن أكثر من ثمانين بالمائة من المشكلات تكون بين الدول المتجاورة صراعًا على الأرض أو المياه أو مصادر الطاقة الأخرى، ولكن هناك صراعات من نوع آخر مثل ما تمثله المشكلة بين مصر وإثيوبيا حول مياه نهر النيل، حيث عمدت أديس أبابا إلى اتخاذ إجراءات أحادية متجاهلة دول المصب للنهر فى مصر والسودان الأمر الذى دفع الرئيس ترامب فى رئاسته الأولى لأن يتخذ موقفًا متعاطفًا مع القاهرة لأن هناك اتفاقيات تحفظ حقوق المصريين فى مياه النهر مثلما هو الأمر بالنسبة للدول الأخرى، وما زالت المشكلة معلقة بسبب التعنت الإثيوبى حتى إن الكثير من علماء المياه والبيئة يعزون السيول التى داهمت السودان مؤخرًا بأسباب تتصل بأخطاء فى الإنشاء والتشغيل للسد الإثيوبى الذى تنفرد أديس أبابا بكل ما يتصل به متجاهلة حقوق دول الجوار والشراكة فى مياه الأنهار وفقًا لما تحدده مواد القانون الدولى فى هذا الشأن.
ثالثًا: إننى ممن يميلون إلى أن النظام التعليمى فى دولة معينة هو المسئول بالضرورة عن تكوين الشخصية الوطنية وتحديد ملامح الهوية، فلو نظرنا إلى دولة أوروبية آسيوية بحر متوسطية هى تركيا فسوف نكتشف على الفور أن التراكم التاريخى والعامل الجغرافى يشكلان معًا جزءًا كبيرًا من هوية تلك الدولة ومكانتها التاريخية، ولذلك فإن انضمام دول إسلامية مثل تركيا التى عرفت عاصمتها آخر خلافة إسلامية إلى مجموعة الدول التى أسهمت بفاعلية فى تشكيل مقترح ترامب الرئيس الأمريكى حول مأساة غزة والأبعاد المعقدة للقضية الفلسطينية فى وجود رجب الطيب أردوغان رئيس الجمهورية التركية بمثابة تأكيد لدوره ومكانته فى المنطقة، ويكفى أنه رئيس إحدى دول حلف الأطلنطى ويدين أهلها بالإسلام ويمثلون مزيجًا قويًا لسبائك الشرق الأوسط من ترك وكرد وعرب وغيرهم من القوميات الأخرى. وسوف نكتشف أن شخصية المنطقة الواقعة من إيران شرقًا إلى تركيا غربًا بما تضمه من دول ذات ثقل فى الثروة والتقدم هى ذاتها الدول التى تشكل قلب الإقليم العربى وخاصرة وجوده المتألق. ولذلك فإن الحديث عن هذه الأقطار العربية إنما هو حديث عن كلتة متجانسة من حيث المزاج الإنسانى والمسار التاريخى والموقع الجغرافى، ويكفى أن نتذكر أنها كانت فى يوم ما تحت مظلة واحدة هى الدولة العثمانية لعدة قرون.
رابعًا: شعرت بشىءٍ من السعادة بأن الحديث على لسان كل المسئولين الغربيين يدور حول الدول العربية والإسلامية مما يعنى أن هناك صحوة روحية لأن الطرف الآخر يسعى للزج بالدين فى أطماع الاستعمار الجديد والسيطرة الأجنبية على المناطق العربية، فحتى نتنياهو مجرم الحرب والقاتل أمام كاميرات العالم كله لا يستحى فى أن يقحم دينًا سماويًا هو اليهودية فى أخص شئون الصراع العربى الإسرائيلى وذلك يعنى على الجانب الآخر أننا يجب أن نكون حريصين فى محاولات ذلك الطرف على تصوير الصراع على أنه دينى حتى ولو كان ذلك هو هدفه المعلن أو الصامت، فالدين شعور روحى خطير يقوم على فكرة الإيمان الذى لا يتزحزح لذلك فهو سلاح ذو حدين يمكن أن يكون قاطعًا فى التفرقة بين أصحاب الحقوق وأصحاب الأطماع، ولكنه يشكل أيضًا أداة سياسية يمكن أن تسمح للبعض بأن يسيطر ويتحكم فى الآخرين، فالإسلام السياسى بكل ما له وما عليه يمكن أن يكون هدفًا إسرائيليًا لتلوين الصراع وإعطاء معطيات جديدة له على حساب الغير.
خامسًا: إننا نعيش فى منطقة عرفت كل ألوان العنف وأبشع صور المعاناة، فقد عرفنا القهر الاستعمارى وعرفنا أيضًا محاولات استخدام الدين ضد صالح البشر لتبرير جرائم التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية كما عرفنا أيضًا نمطًا من أخطر أنماط الاستعمار الجديد وهو الذى يكمن فى محاولة اقتلاع شعب من جذوره والعدوان على تاريخه والعبث بمقدساته وتشويه صورته بأدوات عنصرية وعدوانية واستيطانية، ومع ذلك كله فلا زالت هذ المنطقة الصامدة تبحث عن الاستقرار وتسعى نحو السلام، وقد كان لقاء شرم الشيخ الأخير (أكتوبر 2025) تعبيرًا واضحًا عن التضامن العربى الإسلامى وقدرته على تحريك المواقف الدولية وتحويل عدد كبير من الدول إلى البوصلة الصحيحة فى الاتجاه الذى يتسق مع الاستقرار والعدل والسلام الدائم.
.. إن المزاج العام بين الأقطار العربية والإسلامية يشير إلى استعادة الثقة بالنفس والإحساس بأن الضمير العالمى قد بدأ يتحرك أخيرًا، وأنه على الرغم من أن إسرائيل هى الطفل المدلل للولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا فى ظل رئيسها دونالد ترامب إلا أن الأمر الذى لا خلاف حوله أن بسالة الشعب الفلسطينى وقدرته على تحمل أصعب الظروف قد أصبحت أسطورة سوف تتحاكى بها الأجيال القادمة وتجعلها شعارًا وتطلعًا إلى المستقبل، ونحن نرقب عن كثب ما سيدور فى الأيام القادمة وتأثيره على الصراع العربى الإسرائيلى الذى سيطر على المنطقة لأكثر من قرن كامل.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة