x قد يعجبك أيضا

ثنائية كِمت ودِشرت

الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 - 6:20 م

يحتفظ الأرشيف الألمانى بخبر صحفى جاء فيه أن الملك فؤاد فى رحلة إلى ألمانيا طالب بإعادة رأس نفرتيتى إلى مصر.


وفقا للمؤرخ الأمريكى دونالد ريد فإن الخبر الصحفى ضم رسما كاريكاتوريا تتهكم فيه نفرتيتى وهى تخاطب الملك فؤاد قائلة «أتريد أن تأخذنى من هنا لتضمنى إلى حريم قصرك؟!».


كانت تلك الغمزة من نفرتيتى تشير من طرف خفى إلى أن الملك فؤاد يحاول فى نفس الوقت أن يجعل من مصر ذات هوية عربية وإسلامية، ومن ثم لا علاقة له بتراث المصريين القدماء.


فى الثلث الأول من القرن العشرين، وفى سعى مصر للاستقلال عن الاستعمار البريطانى تنازعت مصر هويات متعددة، عبر عنها عدد كبير من المفكرين، كان فى طليعتهم سلامة موسى، الدكتور محمد حسـين هيكل، العقاد، الحكيم، ولحق بهم نجيب محفوظ فى بعض قصصه القصيرة ورواياته (وأهمها قصة صحوة المومياء التى ينتفض فيها المصريون القدماء للتحرر من الاستعمار البريطانى).


كانت عقول النخبة المصرية حائرة: هل تبحث عن خلاصها فى الماضى المصرى القديم أى النزعة الفرعونية؟ أم فى الرابط العروبى الإسلامى؟


فى تلك الفترة لم تكن كلمة فرعونية تثير حساسية كما هى اليوم.


آنذاك، لم يكن أحد يقول لك «لا تقل فرعونية بل قل مصر القديمة» كما يفعل المتقعرون اليوم!


الفرعونية لها مستويان: تفسير حرفى بمعنى بيت الملك الحاكم ومن ثم فهى تخص الملوك لا الشعب، ومعنى أوسع وهى تاريخ مصر القديمة بصروحه الشاهقة المدهشة. ومنتجه الحضارى العريق.


وإلى اليوم تخرج فى دور النشر العالمية كل عام عشرات الكتب لعلماء كبار يعطون لمؤلفاتهم عنوان «مصر الفرعونية».


حتى وقت قريب كان منتخب كرة القدم فى مجده فى عهد حسنى مبارك يحمل لقب «منتخب الفراعنة»!


حسنا.. لماذا ذهب الملك فؤاد فى إلى ألمانيا مطالبا برأس نفرتيتى؟ هل كان ذلك دافعا وطنيا مصريا مخلصا أم كان ضمن لعبة التنافس الاستعمارى الذى وقعت فيه مصر لضغط الاحتلال الإنجليزى ومحاولة إخراج فرنسا وألمانيا من ساحة علم المصريات؟


الإجابة موجودة بالفعل فى عشرات الصفحات فى الكتاب الضخم الذى أصدره المؤرخ الأمريكى دونالد ريد ونقله للعربية أسامة حميد وعاطف معتمد وياسر معوض (تحت الطبع فى «دار البحر الأحمر» للنشر والتوزيع فى القاهرة).


أريد أن أبقى الآن فى لحظة الهوية الفوارة التى وصلت ذروتها بافتتاح المتحف المصرى الكبير: هل هذه لحظة مؤقتة موسمية؟ أم تتسق مع بقية هويات العروبة والأفريقانية والإسلام والحداثة والعصرنة؟


هل هذه فترة موسمية أم مطلوبة لتحتل مساحة أكبر على حساب الهويات الأخرى: لا سيما العروبية والإسلامية؟


هناك مستويان لاكتشاف الإجابة:


- أن الأمر موجة إعلامية وصور ملونة وشعارات طنانة؟
- أن الأمر عقيدة جديدة للهوية المصرية تنتشر بعلم ودراسة فى التعليم والجامعات والمنابر الفكرية.


ولأن الموضوع يستحق كتابا أو مجلدا كاملا يتصدى له مؤرخون مخلصون، فسأسمح لنفسى فقط بكتابة سطرين على سبيل الخواطر العابرة فأقول:


«هوية مصر هى كل هذه الهويات مجتمعة، جميعها يساند بعضها بعضا، لا أفضلية لواحدة على الأخرى: أن تكون مصريًا يعنى أن تكون منتميًا لمجد الفراعنة والحضارة التى أنارت الدنيا ودولتهم العظمى التى امتدت من الشام (جناح مصر الشمالى) إلى عمق السودان (جناح مصر الجنوبى)، أن تكون مصريًا يعنى أن تكون فخورًا بمصر الإفريقية وجذورها المتشعبة والمتشابكة مع شعوب حوض النيل، وأن تكون أيضا قبطيًا معتزًا بهوية مصر المسيحية التى جعلت من الكنيسة المصرية كنيسة عالمية، وأن تكون أيضًا عروبيًا مسلمًا، لأن مصر أكبر تأثيرًا وأخطر مكانة بعمقها العربى وتشابكاتها الإسلامية».


وإذا استعرنا تعبير العبقرى إدوارد سعيد ــ المشهور فقط بكونه ناقدا للاستشراق الاستعمارى مع إهمال دوره فى الموسيقى ــ فإن مصر أشبه بمقطوعة موسيقية كاملة: قد تعلو فيها نغمة وقت صمت بقية النغمات، ثم تهدأ.. لتصعد نغمة أخرى تلعب لفترة دور العزف المنفرد، وكل ذلك يؤلف اللحن المتناغم الكامل.
ثنائية كمت.. دشرت


دعونا فى هذه المناسبة نتذكر أن حضارة مصر القديمة تأسست على عمودين «كِمت» و«دِشرت».


الكلمتان من اللغة المصرية القديمة: تعنى كمت «الأرض السوداء» أو الطين فى الوادى والدلتا، وتعنى دشرت «الأرض الحمراء» أى الصحراء على جانبى الوادى والدلتا.
صحيح أن مصر عرفت الزراعة ومن ثم الاستقرار وتأسيس الحضارة فى كِمت لكن لدينا 5 حقائق علمية لا شك فيها:


المصريون القدماء كشعب ومجموعة عرقية جاءوا أصلًا من دشرت أى الصحراء وهبطوا من تلك الأراضى إلى وادى النيل بعد أن تغير مناخ الصحراء من رطب ممطر غنى بالحيوانات والنباتات إلى صحراوى جاف. لم تنبت كمت شعبا أو مجموعة عرقية من تلقاء نفسها، فى كمت تطورت الحضارة لكن من دشرت جاء البشر.


تأسست العقائد والأساطير المصرية القديمة على ثنائى الصحراء والطين، لعلنا نذكر أن الصقر من الصحراء بينما حية الصل من أحراش الدلتا، ونذكر أن «ست» معبود الصحراء بمثل ما أن «أوزير» معبود طين الوادى والدلتا.


كل الذهب الذى استعمله الفراعنة لتشييد تماثيلهم ومقتنياتهم ومن بينها قناع توت عنخ آمون من الصحراء (الشرقية) بل إن هذا القناع يضم أحجارا نادرة مثل «زجاج الصحراء الليبية» المجلوب من بحر الرمال فى صحراء مصر الغربية.


وبدون دشرت وصخورها النارية لم يكن ممكنا أن نرى الصروح العظيمة من تماثيل ومعابد عند حكام وملوك كمت وإلا لبنوا تماثيلهم وصروحهم من الطين اللبن، الطوب اللبن كان سكنا للشعب البسيط.. ذاب وتلاشى مع الزمن.. أما صروح الحكام فتدين بالفضل لـ «دشرت» لا «كمت».


لم تنقطع صلة المصريين القدماء فى كمت بالصحارى المحيطة يوما سواء فى جلب الكنوز أو تعمير الواحات أو اتخاذها طريقا للتجارة مع العمق الإفريقى. وبدون دشرت ما كان اتصال كمت بالبحر الأحمر والعالم الفسيح من خلفه: بداية من بلاد بونت (لعلها شرق إفريقيا أو اليمن) ومن خلفهما الهند وعوالم مفتوحة. وبدون دشرت كانت كمت ستقف عاجزة عن الاتصال بسيناء والتوسع فى الإمبراطورية المصرية فى بلاد الشام أو الامتداد جنوبا نحو حوض النيل الإفريقى.


فى العصور الحديثة حافظت «دشرت» على منابع الثروة فما تزال تقدم أكبر كميات من الذهب وأكبر مصادر للبترول والغاز. وما تزال الأمل فى التوسع والتطوير والاستثمار السياحى وتدعيم الاقتصاد القومى.


أما القول الخفيف المنتشر هذه الأيام من أن المصرى الحقيقى هو المصرى الكمتاوى فقط لا غير، والذى لا يريد من الصحراء وثقافتها شيئا لأن الصحراء بداوة وتخلف ولا شىء فيها، فهو تعبير مؤقت، وموضة، وتقليعة، وسيمر ويعبر وينسى كأن شيئا لم يكن.. لأن الأكثر بقاء هو التكامل الجغرافى الحضارى بين الصحراء «دشرت» الطين المثمر للحضارة «كمت».


وعلى ذكر الطين المثمر فمن وجهة نظرى أن أى إنسان غيور على مصر يجب أن يكون كمتاوى قلبا وقالبا فى حالة واحدة لا جدال فيها وهى أن يحافظ على ما بقى من طمى النيل والأرض الزراعية من التجريف والاقتلاع والبناء عليها وتعريض بلادنا للمجاعة والارتهان لقوى خارجية تملى علينا إرادتها.. وحينها سنكون جميعا «دشرتيين».. لم يبقَ لنا من كمت سوى الذكريات.

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة