x قد يعجبك أيضا

فن التظاهر.. بالغباء!

الجمعة 19 ديسمبر 2025 - 7:00 م

يسألونك عن رأيك فى قرار اتخذه مديرك فى العمل، ورغم أنك تعلم تمامًا أنه قرار خاطئ وتملك كل الحجج والبراهين على صحة رأيك، لكنك تبتسم وتتظاهر بقلة المعرفة رغم أنك الأكثر دراية، فتخفى ذكاءك خلف قناع التواضع المصطنع، لا لأنك خائف أو جبان، بل لأنك أذكى من أن تدخل معركة خاسرة مع من لا يريد سماع الحقيقة!
بعضنا يمارس فن «التغابي» يوميًا، يتقنه كما يتقن التنفس، فلا يبين معرفته عندما يدرك أن إظهارها سيجلب المتاعب أكثر من المنافع، ويتظاهر بعدم الفهم عندما يعلم أن الفهم سيحمله أعباء لا طاقة له بها، فيلعب دور البسطاء فى عالم يعاقب أحيانًا من يعرف أكثر مما ينبغى!
فى المجلس العائلى، يشرح كبير العائلة موضوعًا أنت متخصص فيه، يخطئ بشكل فادح، ويخلط المفاهيم بثقة مدهشة، بينما أنت، من يملك شهادة الدكتوراه فى المجال الذى يتم الحديث عنه، تومئ برأسك، تبدى الإعجاب، وتتظاهر بأنك تتعلم منه، لأن الحكمة والتجربة علمتاك أن ليس كل حق يُقال، وليس كل خطأ يستحق التصحيح، خاصة عندما يكون الثمن سلام العائلة وتماسكها الذى قد تهزه مواجهة كبارها.. المخطئين!
فى اليوم التالى، زوجتك تبدأ بالشكوى من مشكلة مع صديقتها، تسرد التفاصيل بحماسة، وأنت ترى الصورة كاملة، تفهم أين أخطأت هى، وأين أخطأت صديقتها، لكنك تختار دور المستمع الذى «لا يفهم فى هذه الأمور»، لأنك تعلمت أنها أحيانًا تريد أذنًا لا رأيًا، وأن إظهار فهمك الكامل قد يحولك من حبيب مواسٍ إلى قاضٍ متطفل!
وفى اجتماع العمل فى اليوم الذى يليه، يُطرح مشروع محكوم بالفشل، الجميع متحمس، والرئيس مقتنع، وأنت الوحيد الذى يرى الكارثة المقبلة، لكنك تختار الاحتفاظ برأيك لنفسك، وقد تمارس قدرًا من التغابى البرىء، لأنك تعلم أن صوت العقل وحيدًا فى زحمة الحماسة العمياء لن يُسمع، وأن من ينذر بالعاصفة وسط الاحتفال قد يُنظر إليه كنذير شؤم لا ناصح أمين!
قد نتساءل أحيانًا عن الحد الفاصل بين الحكمة والنفاق، بين التغابى الذكى والتخاذل المقيت، ومتى يكون إخفاء المعرفة حماية للذات ومتى يصبح خيانة للأمانة، والإجابة الصريحة هى أن الخط رفيع وخطر، فمن يتغابى دائمًا قد ينتهى به الأمر متجاهلًا حقًا، ومن يتظاهر بقلة المعرفة طويلًا قد يُصدّق هو نفسه هذا التظاهر!
التغابى فن يحتاج إلى ذكاء حقيقى، لأنه يتطلب معرفة متى تُظهر ذكاءك ومتى تخفيه، متى تتقدم بمعرفتك ومتى تتراجع بحكمتك، متى يكون الصمت ذهبًا والكلام ترابًا، ومتى يصبح الصمت جريمة والكلام واجبًا.
فى مجتمعاتنا التى تحب كثيرًا من «يمشى جنب الحيط»، وتعاقب من «يرفع رأسه»، قد يكون التغابى استراتيجية بقاء، لا هروبًا من المسئولية، بل اختيارًا حكيمًا للمعارك، فالحياة ليست حلبة ملاكمة نحتاج فيها إلى إثبات قوتنا فى كل جولة، بل ماراثون طويل يحتاج إلى إدارة ذكية لطاقتنا المحدودة، لكن الخطورة تكمن فى أن يصبح التغابى أسلوب حياة دائمًا، فنخفى نور الحكمة حتى ينطفئ، ونهرب من مسئولية المعرفة حتى نفقد حق امتلاكها، وهنا يتحول التغابى من ذكاء اجتماعى إلى انتحار فكرى.
الحكيم يعرف أن هناك وقتًا للكلام ووقتًا للصمت، وقتًا لإظهار المعرفة ووقتًا لإخفائها، وقتًا للتقدم ووقتًا للتراجع، يفهم أن التغابى أحيانًا ليس ضعفًا، بل قوة وأنه ليس جهلًا بل معرفة عميقة بطبيعة البشر والحياة. وليس عيبًا أن نتغابى عندما تقتضى الحكمة ذلك، لكن العيب هو أن نفقد القدرة على التمييز بين مواقف تستدعى إظهار المعرفة وأخرى تستدعى إخفاءها، وأن ننسى أن التغابى مجرد قناع نرتديه عند الحاجة، لا وجه نعيش به طوال الحياة، وأن نتذكر دائمًا أن أذكى الناس هو ليس من يُظهر ذكاءه فى كل موقف، بل من يعرف متى يكون الغباء المصطنع.. أذكى خياراته!


سليمان الخضارى
جريدة القبس الكويتية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة