x قد يعجبك أيضا

محمد هاشم الذى كانت حياته وليمة

الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 - 6:40 م

هناك أصدقاء تدخرهم دائمًا للزمن؛ لأن لديك الشعور الدائم بأنهم باقون إلى الأبد، لذلك فإن غيابهم هو تجسيد للخسارة، وفقدهم أكبر من فكرة الغياب.

هؤلاء الأصدقاء هم مصدر أمان دائم، فى ابتسامتهم طمأنينة، وفى أحضانهم كامل الأمان، كما أن مشاعرهم محفوظة فى خزائن البراءة ولا مجال لتلويثها أبدًا.

بالنسبة لى كان الناشر محمد هاشم، مؤسس ومدير دار ميريت للنشر، الذى رحل قبل أيام أحد هؤلاء الذين أدخرهم للزمن، فالثقة فى شهامته مطلقة، واستعداده للتضامن ظل أصيلًا لا ادعاء فيه.

عرفته وأنا أبدأ حياتى العملية قبل 30 عامًا، وعملت تحت رئاسته لعدة سنوات، وكما يحدث فى أى علاقة عمل اختلفنا واتفقنا، لكن صداقتنا ظلت فى أمان تام.

عاملنى كأخ صغير، ولازمه هذا الإحساس على امتداد العمر، ولم يحدث أبدًا أن دخلت مكتبه إلا وسألنى عما أرغب فى تناوله من طعام أو شراب.

كانت حياته وليمة ممتدة، وفى روحه كرم لا حدود له، يتصرف كفلاح يجلس فى حقل يغمره الخير، يدس يده فى جيب الجلباب وينفق بلا حساب، استجابة لشعور خفى بأن هذا هو الواجب الذى ينبغى تأديته.

تحت قوة الشعور بالواجب أعطى هاشم طاقته كلها للشباب، وراهن على أسماء كثيرة طرقت بابه، وبعدها تحول أصحابها إلى نجوم فى الكتابة أو الفن، وإلى أن رحل لم يعرف أحد من أين جاء بكل هذا الإيمان بحقهم فى التعبير، أو الثقة فى مواهبهم التى جعلته جادًا فى الوقوف خلفها والدفاع عن فرصهم فى الحياة بكرامة، بحيث تحول فى أقل من عامين من ناشر إلى «كشاف مواهب» بالمعنى الذى نعرفه فى ملاعب كرة القدم.

حقق هاشم نجاحات كثيرة فى مهنته ورغم ذلك فإن عاش حياته على طريقة زوربا اليونانى، يتخفف من أى شىء يثقله، ويرى القوة فى الاستغناء، يعامل الحياة كرقصة طويلة مع امرأة غجرية يبتكر إيقاعها من صخب الحياة، كأنما رفع فى وقت مبكر شعارًا من شعر محمود درويش: «لا شىء أملكه ليملكنى».

مات هاشم بطريقة درامية كما عاش تمامًا، باغته دور برد قاسٍ بسرعة خاطفة ودون مقدمات طويلة، كأن الله أراد إعفاءه من أى ألم.

من يتأمل مشهد العزاء  أمس الأول فى مسجد عمر مكرم لن يصعب عليه إدراك صحة المعادلة التى صاغها قبل موته الذى يليق بمغامر حقيقى رفع راية المحبة، ولا شىء غيرها وارتضى مخلصًا البقاء فى الهامش والدفاع عن فهمه لمعنى الاستنارة، لم ينشر هاشم إلا ما يؤمن بصحته ويعتقد فى حاجة مصر إليه لتشغيل «أنوار العقل».

جمع عزاء هاشم نفرًا من الناس ينتمون إلى تيارات وأجيال مختلفة، بينهم من الاختلاف أكثر من الاتفاق، لكن الضغينة ساعتها اختفت، وحل محلها التوافق على مكانته بينهم.

طوال 3 ساعات لم يكن هناك مقعد خالٍ داخل القاعة التى امتلأت بالمعزين، الذين جاء بعضهم من محافظات بعيدة ووقفت الغالبية فى طوابير وجماعات واصلت التحرك بين الداخل والخارج، كأن الجميع أرادوا إطالة مشهد الوداع الأخير لكى يشبعوا من الرجل الذى احترف جمعهم.

عاش هاشم لأجل من حوله، ومات جديرًا بمحبة الجميع، حتى فى الأوقات التى تعثر فيها، لم تكن عثراته سوى استجابة لنزق المغامر الذى يتصرف بحسن نواياه فى بعض الأحيان مثل الأطفال الحمقى الذين إذا لعبوا طالهم الأذى، ثم يغضب الأهل والأصدقاء لبضع دقائق، وبعدها يتلقون عبارات التدليل والتكريم استجابة لعاطفة سخية كانت تميزه. هاشم كان مغامرًا يشبه مغامرى زمن الشطار والعيارين الذين يتحايلون على واقعهم، وفيه الكثير من شخصية على الزيبق التى قدمتها الدراما، مغامر ومقدام يدافع عن مصر وينتفض لنصرتها مهما كلفه هذا الحماس من أثمان.

ذهب هاشم إلى خالقه بعد أن عاش حياته بالطول والعرض، حرًا كطائر فى سماء لا حدود لها، أستدعيه عند كل دعاء، وفى رأسى بيت أحبه من شعر فؤاد حداد أرى فى الراحل تجسيدًا لمعناه:

«الشمس صنعتها تشمس/ والقلب صنعته يتحمس/ والآه لا صنعة ولا موال/ بأغنى زى ما بتنفس».

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة