x قد يعجبك أيضا

احموا ذاكرة العندليب.. لا تتركوا بيته يذبل فى صمت

السبت 11 أكتوبر 2025 - 6:55 م

بيت عبدالحليم حافظ ليس مجرد جدران وسقف، بل هو نبض ذاكرة ما زالت تنبض بالحنين، ومكان شهد ميلاد الأغنيات التى رافقت أفراحنا وأحزاننا.

لذلك، حين يُقال إن بيت العندليب قد يُغلق، كأن جزءًا من وجداننا يُغلق معه، وكأننا نطفئ شمعة كانت تضىء ليالى الفن الجميل.

عبدالحليم لم يكن فنانًا عاديًا؛ بل كان حكاية جيل كامل، رمزًا للحلم والإصرار، وصوتًا صدح بالحب والوطن والأمل، وفى كل بيت عربى، هناك ذكرى بصوته، ولحن يعيدنا إلى زمن صدق فيه الإحساس.

إغلاق بيته ليس قرارًا عائليًا فحسب، بل امتحان لذاكرتنا الجماعية التى يجب ألا نحرم الجمهور من استدعائها ومعايشتها دائمًا.

أسرة العندليب قررت فى البداية أن يكون دخول المنزل بمقابل مادى للزوار من أجل عمل صيانة، وعندما قوبل هذا القرار باستهجان شديد، قرروا غلقه بشكل دائم.

والسؤال الآن: هل نضع إرث من صنعوا وجداننا تحت وصاية تتحكم فيه؟ وهل نكّرم من أعطوا بلا حدود بغلق المكان الشاهد على رحلتهم؟

فى كثير من البلدان، يصبح تكريم الفنانين بعد رحيلهم نوعًا من الوفاء الحضارى، وفى مصر، نجد أمثلة مضيئة تؤكد أن الحب الحقيقى للفن لا ينتهى برحيل صاحبه.

فبيت أم كلثوم فى الزمالك تحوّل إلى متحف راقٍ يحتفظ بملابسها وأشيائها وصورها، ويستقبل الزوار من كل أنحاء العالم ليعيشوا لحظة من تاريخها العابق بالعظمة.

كما تحوّل بيت طه حسين فى الجيزة إلى متحف ثقافى يروى قصة الكفيف الذى أبصر بعقله ما لم يره المبصرون بعينهم، فتحوّل المكان إلى قبلة لعشّاق الأدب والفكر.

وفى الإسكندرية، ما زال منزل الفنان الكبير محمود سعيد شاهدًا على عبقرية الفن التشكيلى المصرى، وقد أُعيد تأهيله ليصبح متحفًا يحمل اسمه، يضم لوحاته وأدواته، ويُذكّر الزائر بأن الإبداع لا يموت.

وعلى مستوى العالم العربى، نجد بيت فيروز فى لبنان يُعامل كرمز وطنى، وإن لم يُحوّل رسميًا إلى متحف بعد، إلا أن اللبنانيين أنفسهم جعلوه بيتًا فى الوجدان، تُضاء نوافذه كل صباح بأغانيها.

أما فى العالم الغربى، فالأمثلة لا تُحصى: بيت بيتهوفن فى بون بألمانيا أصبح متحفًا موسيقيًا عالميًا، وبيت بابلو نيرودا فى تشيلى تحول إلى مزار شعرى وإنسانى يزوره عشّاق الكلمة من كل مكان.

تلك النماذج تؤكد أن الشعوب التى تعرف قيمة مبدعيها، تحفظ بيوتهم كما تحفظ قلوبها.

فحين نصون المكان، لا نحمى حجارة صامتة، بل نحمى الذاكرة، ونقول للأجيال القادمة: «هنا عاش من علّمنا كيف نحب الحياة».

تكريم القامات الفنية لا يكون بإقامة تمثال أو إصدار بيان، بل بأن نحفظ أثرهم، ونروى سيرهم، ونُعلم الأجيال الجديدة أن الفن رسالة حياة.

فبيت عبدالحليم يمكن أن يكون مدرسة فى الإحساس، ومزارًا للحلم، لا مكانًا منسيًا خلف أبواب مغلقة.

قد يرحل الجسد، لكن الفن لا يرحل، وقد تُهدم البيوت، لكن الأصوات تبقى تسكن الذاكرة.. وعبدالحليم سيبقى يغنّى ما دامت القلوب تعرف الحنين لعالمه، وما دام هناك من يصدق أن الجمال لا يموت أبدًا.

إن حفظ بيوت المبدعين ليس رفاهية ثقافية بل واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، فالبلاد التى تحترم فنها، تحترم نفسها وتاريخها.

من هنا، نرفع نداءً صادقا إلى وزارة الثقافة، ونقابة المهن الموسيقية، وكل من يعنيه أمر الفن فى هذا الوطن: احموا ذاكرة عبدالحليم، لا تتركوا بيته يذبل فى صمت.. حولوه إلى متحف أو مركز يحمل صوته ورائحته، ليبقى شاهدًا على زمن صدق فيه الإحساس وارتفع فيه الفن إلى مرتبة النور.

وليكن بيت العندليب بداية لرحلة جديدة من الوفاء لكل مبدع أحب هذا الوطن بصوته أو كلمته أو لحنه، فالأوطان تقاس بما تبقيه من روح مبدعيها، لا بما تغلقه من بيوتهم.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة