فى ختام هذه السلسلة من المقالات عن الذكاء الاصطناعى، ماذا عن مصر؟ ماذا لديها وماذا تستطيع أن تقدم لهذه التقنية؟ فالعالم يشهد اليوم طفرة غير مسبوقة فى هذا المجال، حيث أصبح الاستثمار فى العقول البشرية والمعرفة التقنية ركيزة أساسية لتوطينه. وفى هذا السياق، تبرز مصر كدولة تمتلك ثروة بشرية من الخريجين والباحثين وأصحاب المواهب ما يؤهلها للعب دور محورى ــ إذا ما أُحسن تصميمه وإدارته ــ فى رسم ملامح مستقبل الذكاء الاصطناعى داخل وخارج حدودها. وانطلاقًا من رؤية «مصر 2030» التى تركز على الاقتصاد المعرفى وتحفيز الابتكار والاحتواء التكنولوجى يأتى الاهتمام المتزايد بتأهيل الكوادر البشرية المحلية لتصبح الركيزة الأساسية فى بناء اقتصاد الذكاء الاصطناعى، من خلال خمس ركائز أساسية هى: أولاً، الإطار الاستراتيجى الوطنى، حيث أُطلق المجلس الوطنى للذكاء الاصطناعى فى عام 2019 الذى بادر بإعلان الاستراتيجية الوطنية الأولى للذكاء الاصطناعى فى عام 2021، بمحاورها التالية: تطبيق الذكاء الاصطناعى فى الحكومة، والتنمية، وبناء القدرات، والعلاقات الدولية. ثم أُطلقت النسخة الثانية من الاستراتيجية للفترة (2025–2030) فى يناير 2025، بعدة أهداف منها تأهيل 30,000 متخصص فى الذكاء الاصطناعى، وإنشاء أكثر من 250 شركة متخصصة فى هذا المجال.ثانيًا، جهود بناء القدرات وتحفيز المواهب المحلية: وذلك بإطلاق مبادرة Digital Egypt Builders فى عام 2020 التى كانت تمنح درجات الماجستير المهنية فى تخصصات مثل الذكاء الاصطناعى وعلوم البيانات بالتعاون مع جامعات دولية وشركات عالمية. ومبادرة Digital Egypt Cubs التى تستهدف الشريحة العمرية لطلبة المدارس الإعدادية والثانوية، وتُوّجت هذه الجهود بإطلاق جامعة Egypt University of Informatics فى «مدينة المعرفة» بالعاصمة الإدارية الجديدة، كأول جامعة متخصصة فى مجالات الحوسبة والتقنيات الحديثة فى إفريقيا. ثالثًا، التمكين المبكر: ففى قرار جرىء وافق المجلس الأعلى للجامعات فى يونيو 2025، على فتح باب التقديم لخريجى مدارس التعليم الفنى المتخصصة فى الكمبيوتر والذكاء الاصطناعى للالتحاق بكليات الذكاء الاصطناعى وعلوم الكمبيوتر، وهو تحوّل يسمح بتوسيع قاعدة الكوادر الفنية المبكرة. رابعًا، تهيئة بيئة داعمة للبنية التحتية والابتكار: حيث شهد قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات نموًا بنسبة 15.2% فى 2022/2023، بالإضافة إلى التوسع فى البنية التحتية الرقمية بشكل ملحوظ من حيث: مراكز البيانات الوطنية، وخدمات الحوسبة السحابية.خامسًا، متابعة دراسة الأثر المتوقع والتحديات، حيث سوف تُسهم جهود بناء المهارات فى تأهيل 30,000 متخصص فى تقنيات الذكاء الاصطناعى وإضافة أكثر من 250 شركة تعمل فى هذا المجال بحلول 2030، مما يعزز الاقتصاد الرقمى وخلق فرص عمل نوعية. ومع ذلك ورغم النجاحات، توجد تحديات مثل نقص الباحثين المتخصصين، وضعف البُنى التحتية البحثية والتمويل اللازم لها، ومحدودية البيانات المفتوحة، والحاجة لتطوير إطار حماية البيانات فى سياق الذكاء الاصطناعى. • • •أُضيف إلى ما سبق بعض التوصيات التى أراها لازمة لاستكمال الإطار العام للدور المصرى فى تطوير وتوطين تقنية الذكاء الاصطناعى وهى: أولاً، بناء الثقافة العامة للذكاء الاصطناعى: وذلك بأن يتم تدريس مقرر كامل للذكاء الاصطناعى فى جميع الكليات والتخصصات الجامعية بحيث يتم اعتماده من المجلس الأعلى للجامعات كمادة أساسية تحتسب درجاتها فى المجموع العام للطلبة. فلا ضير من أن يلّم طالب أو طالبة كلية الآداب أو الآثار بمجال الذكاء الاصطناعى بل ويمكن لو أراد أن يتخصص فيه فيما بعد، فهذا المجال ليس مقصورًا فقط على التخصصات الهندسية أو المرتبطة بالحواسب بل يشمل كل شىء. ونستكمل الصورة الأعم بتصميم برامج لتدريس الذكاء الاصطناعى فى مراحل التعليم ما قبل الجامعى. ثانيًا، البنية التشريعية: باستكمال الإطار التشريعى الذى بدأ بإصدار قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020، والبدء من الآن فى وضع مقترح قانون للذكاء الاصطناعى نسترشد فيه بالقوانين واللوائح المعمول بها فى الدول المتقدمة. ثالثًا، القوة البشرية: وأعتبرها من أهم العناصر التى يجب أخذها فى الاعتبار، فإذا كانت البيانات المتاحة تفيد بأن عدد الطلبة المسجلين فى كليات الهندسة والحاسبات والذكاء الاصطناعى للعام الدراسى 2024 ــ 2025 حوالى 112 ألف طالب، وأخذًا فى الاعتبار عدد سنوات الدراسة ومتوسط نسب النجاح، فإن الرقم التقريبى لعدد الخريجين سنويًا يدور حول 20.000 خريج وهذا الرقم يعتبر ضئيلاً مقارنة بما «تنتجه» الهند وهو أكثر من مليون خريج متخصص سنويًا. واستكمالاً لهذه النقطة فلابد من إعطاء الأولوية وتهيئة البنى التحتية ودعم هيئات التدريس وتدريبها فى كليات الحاسبات والمعلومات والذكاء الاصطناعى حتى يكون لديها القدرة على استيعاب أعداد أكبر من الطلاب المؤهلين للالتحاق بها وبالتالى زيادة عدد الخريجين. ومع اتساع الفجوة التقنية، فالتوجه الأمثل هو سفر هؤلاء الخريجين إلى الخارج للعمل فى الشركات العالمية ثم يعودون لنقل خبراتهم إلى مصر من خلال أبحاث أو مشروعات مشتركة أو تدريس فى الجامعات. ولتنظيم الاستفادة من هذه القدرة البشرية وتعظيم الاستفادة منها نقترح أن تكون خطط البعثات الخارجية والمشروعات المشتركة والاتفاقات الدولية فى هذا المجال تحت إدارة واحدة حتى يمكن الحصول على أفضل النتائج المرجوة. ثم يجب ألا ننسى المتخصصين المستقلين «Freelancers» الذين يعملون منفردين مع الشركات الدولية، فدمجهم فى هذا المجال ضرورة لإثراء القدرات البشرية الناجحة، فهؤلاء يشكلون شريحة بالآلاف تتزايد يومًا بعد يوم. ويتطلب ذلك اتخاذ قرارات عملية تمنحهم الثقة وتشجعهم على العمل فى بيئة داعمة وليست مُكبّلة، توفر لهم بنية تحتية قوية تخدم أنشطتهم دون أن تفرض عليهم قيودًا ــ من أى نوع ــ تحد من إبداعهم أو مسارهم المهنى. فهؤلاء «الرواد» يجب أن يحظوا بأفضل معاملة باعتبارهم ركيزة أساسية فى بناء الاقتصاد الرقمى، واستطاعوا أن يشقوا طريقهم معتمدين على أنفسهم بعضهم أصاب الكثير من النجاح فى مسيرته المهنية، وأزيد أنه يمكن الاستفادة منهم «كخبراء» فى كيفية البحث عن واختيار أفضل الفرص الدولية فى مجال عملهم.وأخيرًا توفير الدعم الكامل للمنظمات غير الحكومية التى تعمل فى قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصال مثل جمعية «اتصال» التى أُنشئت عام 2004، وأنا أعلم أن الحكومة متمثلة فى وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات تفعل كل ما فى وسعها لدعم هذه المنظمة، ولكن الدور الأهم مناط بالشركات المتخصصة فى هذا القطاع الحيوى التى يجب أن تكون هى الداعم والممول الرئيسى لهذه المنظمة لتحقيق أهدافها. • • •أما عن «اتصال» فيجب أن يتوسع نشاطها وتتشعّب علاقاتها الدولية بالمنظمات المثيلة مثل «ناسكوم» الهندية، ولا بأس أن ندرس تجربتهم الناجحة. إن تعداد سكان الهند يبلغ أربعة عشر ضعف عدد سكان مصر، وبعملية حسابية بسيطة وأخذَا بالأرقام السابقة ــ وبفرض تميز قدراتنا البشرية ــ فيجب أن يكون الهدف النهائى لهذه الجمعية ــ على أقل تقدير ــ هو مضاعفة إيرادات قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى هذا المجال.ختامًا، أؤكد على أن الهدف الأسمى والأهم لهذه الاستراتيجية ليس تجهيز الكوادر البشرية المصرية المتميزة وإرسالها إلى دول أخرى، بل الهدف هو توطين صناعة تقنيات الذكاء الاصطناعى فى مصر، وجهود التحاق هؤلاء الشباب بوظائف فى البلدان المتقدمة ــ وأخص بالذكر الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ــ ما هى إلا حلقة فى سلسلة تستهدف اكتساب الخبرات ممن يمتلكون أدواتها وسبقونا فى هذا المجال لفترة زمنية محددة ثم العودة للمساهمة فى بناء اقتصاد معرفى قوى اعتمادًا على تقنيات الذكاء الاصطناعى بعد التسلح بالقدرة على توطين وتطوير صناعة الذكاء الاصطناعى فى مصر لتحقيق التنمية المستدامة محليًا والمنافسة عالميًا. ولعل الاقتراح يكون بإنشاء مجموعة عمل مركزية تعمل بالشراكة الوثيقة مع مؤسسات المجتمع المدنى ــ مثلاً ــ جمعية اتصال كمُمَثلةً للشركات المتخصصة فى القطاع، وممثلين عن المكاتب المعنية فى السفارات المصرية بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وعدد من الخبراء والمتخصصين فى إدارة الموارد البشرية فى قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. هذا الكيان تكون مهمته الرئيسية هى متابعة الوظائف الشاغرة والمهارات المطلوبة والمواهب المراد الاستعانة بها فى هذه البلدان والتأكد من مطابقة مواصفات المرشحين لمتطلبات شغل هذه الوظائف واختيار الكفاءات البشرية المناسبة، لبناء سمعة جيدة وثقة فى حسن الاختيار، ثم المتابعة وتقديم الدعم الكامل لهؤلاء المرشحين قبل سفرهم، وطوال فترة عملهم بالخارج ثم بعد عودتهم واندماجهم فى المنظومة الأشمل فى مصر.
مقالات اليوم جميل مطر صور كاشفة ولها دلالات وعواقب حسن المستكاوي الاختيار الثانى تحقق أمام بوركينا! عماد الدين حسين ماذا لو حدث العكس؟! أشرف البربرى أكذوبة الصديق الأمريكى محمود محي الدين عن أسعار الفائدة والذهب واقتصاد عموم الناس خالد محمود مقاطعة مؤسسات السينما الإسرائيلية.. صوت العدالة يعلو خالد عزب لماذا قصر العينى.. تحدى تعريب الطب وبناء القواميس الطبية؟! علي محمد فخرو ما يقوله أبطال أسطول غزة صحافة عربية البرازيل.. دور متصاعد على صعيد الطاقة العالمى
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك