يشكل فيلم «ثريا حبى» للمخرج نيكولا خورى، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقى بمهرجان القاهرة السينمائى، عملا وثائقيا يتجاوز حدود السيرة الذاتية التقليدية، ليدخل فى منطقة أكثر تعقيدًا يتقاطع فيها الماضى بالحاضر، والذاكرة بالصورة، والذات بنظرة الآخر.
لا يقدم الفيلم مجرد حكاية عن الراقصة والممثلة ثريا بغدادى وعلاقتها بالمخرج الراحل مارون بغدادى، بل يحفر فى سؤال أعمق: كيف تروى حياة امرأة حين لا تعود صاحبتها قادرة على حكيها بالكامل أو كما رواها الزمن؟
يستخدم الفيلم بنية سردية تقوم على المزج بين الأرشيف الشخصى، والمقابلات الحميمة، والمشاهد اليومية المعاصرة لثريا. هذا التداخل لا يهدف فقط لعرض مراحل حياتها، بل يكشف هشاشة الذاكرة نفسها؛
فكل مقطع أرشيفى يقابله فراغ أو جرح فى الحاضر، ما يجعل الزمن فى الفيلم غير خطى، بل متكسرًا، شبيهًا بنفسية بطلة تحاول لملمة شتاتها.
يطرح الفيلم سؤالًا ضمنيًا: من يملك الحقيقة؟
هل هى ثريا فى لحظات المصارحة؟ هل هو الأرشيف؟ أم كاميرا المخرج التى تتدخل لتعيد تشكيل الماضى؟
فى الواقع يقدم الفيلم ثريا ليس كضحية، ولا كأيقونة، بل كجسد يعمل كأرشيف حى.
حركاتها، الصمت بين جملها خلال التحدث، وحتى ثقل السنوات الذى يخيم على ملامحها؛ كلها تتحول إلى لغة سينمائية تشكل عالمها، وهنا تكمن قوة الفيلم: فهو لا يكتفى برواية قصة امرأة أحبت فنانا كبيرا، بل يقرأ الحب نفسه كقيد أحيانا، وكنافذة خلاص أحيانا أخرى.
الجسد — الذى كان فى الماضى أداة تعبير على خشبات المسرح — يصبح فى الحاضر دليلًا على ما قاومته وما لم تستطع النجاة منه.
رغم أن الفيلم يروى حياة ثريا، فإن شبح مارون بغدادى يحضر كقوة سردية مركزية، يظهر عبر الأشرطة القديمة، الكلمات المنقولة، والذكريات المشوشة، وكأن الفيلم يعترف بأن سرد حياة هذه المرأة لا يمكن فصله عن الرجل الذى شكل جزءا كبيرا من تكوينها الفنى والعاطفى.
لكن المثير أن الفيلم لا يحتفل بمارون ولا يشيطنه؛ بل يترك المشاهد فى منطقة رمادية يرى فيها العلاقة بوصفها مساحة قوة وضعف فى آن واحد.
يعتمد المخرج نيكولاخورى على أسلوب بصرى خال من التجميل، الكاميرا قريبة جدا من الوجوه، ثابتة حينا ومهتزة حينا آخر، وكأنها تبحث عن الحقيقة داخل شقوق المشاعر.
الإضاءة الطبيعية تعمق إحساس الوثيقة كصورة، وتجعل حضور ثريا يبدو حقيقيا إلى حد الألم.
هذه اللغة البصرية تتوافق مع طبيعة الموضوع؛ فالفيلم ليس محاولة لرسم لوحة مثالية، بل لكشف التصدعات التى تبقى الإنسان حيا رغم كل شىء.
فى جوهره، الفيلم رحلة استعادة ثريا — التى عاشت سنوات طويلة فى ظل رجل أكبر حضورا — تحاول هنا استعادة صوتها. لكن الفيلم لا يمنحها هذا الصوت بشكل مباشر؛ بل يسمح لها بتشكيله تدريجيا أمام المشاهد، وهذه نقطة قوة كبرى:
فالفيلم الوثائقى لا يدعى امتلاك الحقيقة، بل يترك الحقيقة تتشكل أمام عين المتلقى عبر الحكى، لحظات التردد، والألم.
أما الأداء التمثيلى، فنجاح الفيلم يعتمد عليه اعتمادا أساسيا. البطلة تحمل الفيلم على كتفيها، مقدمة أداء قائما على التوتر الداخلى والتعبير المقتصد.. نظراتها، حركتها البطيئة، وحتى صمتها، تتحول إلى أدوات درامية واضحة، كأن الممثل هنا لا يؤدى دورا بل يكشف طبقة من ذاته. الشخصيات الثانوية تم توظيفها بحرفية؛ فهى ليست موجودة لملء الفراغ، بل لتشكيل بيئات شعورية تكشف أوجها مختلفة من ثريا: ضعفها، مقاومتها، واستسلاماتها الصغيرة.
بهذا التكامل بين الإخراج والمونتاج والأداء، ينجح الفيلم فى خلق لغة سينمائية خاصة، لغة تتحدث بنبرة خافتة لكنها عميقة، وتستدعى المشاهد إلى المشاركة الوجدانية لا المشاهدة السطحية.
«ثريا حبى» ليس فيلما عن الحب فقط، ولا عن الفن أو فقدانه. إنه فيلم عن امرأة تحاول النجاة من صورتها القديمة، وعن سينما تعرف أن سرد الحياة ليس إعادة ترتيب وقائع، بل تفكيك لطريقة النظر إلى الذات.
يخرج المشاهد من الفيلم وهو يحمل سؤالًا ثقيلًا: هل يمكن لأى إنسان أن يستعيد حياته حين تصير جزءًا من ذاكرة الآخرين قبل أن تكون ذاكرته هو؟