اقتبس المخرج السودانى محمد صباحى اسم «درب الأربعين»، الطريق التاريخى الذى لا يزال يصل مصر والسودان واشتهر بتجارة الإبل وحركة الجماعات الصوفية، لكى يستضيف بشكل ودى فى منزله والسيدة زوجته بالمعادى
فنانين تشكيليين نزحوا من بلاده إلى القاهرة بعد اندلاع الحرب هناك فى إبريل 2023. والأسبوع الماضى كنا على موعد مع واحد من أبرز رسامى جيله وهو خالد عبد الرحمن الذى استقر أخيرا فى مصر ويقيم هو أيضا بالمعادى، فى أبراج عثمان على الكورنيش.
وتحديد المكان هنا مهم لأنه يرتبط برؤية الفنان لما حوله. نرى الهرم فى إحدى لوحاته وقد تلون بأزرق ليلى دون أن نعلم على وجه الدقة هل هو أحد أهرامات الجيزة أم يرجع لملوك وملكات كوش النوبية، شمال السودان على الضفة الغربية لنهر النيل.
بمجرد النظر إلى الأعمال التى تم عرضها ليلة واحدة لمجموعة من الأصدقاء نفهم أن خالد عبد الرحمن ما زال يعيش بقلبه فى الخرطوم حيث ولد قبل 47 عاما، وأنه يرى كل ما حوله بعين الرضا مثلما عند الصوفية، فيجعل كل شىء أجمل من ما هو عليه فى الواقع ويستحضر روح الأماكن التى تركها رغما عنه بمحبة غامرة فتظهر فى أبهى صورها وتنقل لنا شحنة من المشاعر الفياضة، تتأرجح بين الوجد واللطف والحسرة واللهفة والحنين. هو يراقب العالم من شباكه، ويتأمل كثيرا خلال جولاته التى يسير فيها
على الأقدام - كعادته منذ الصغر وهو فى السودان - بحثا عن موضوعات للوحاته القادمة. وبالتالى تتميز أعماله كغيره ممن يراقبون الدنيا عبر النافذة بكثير من الفانتازيا وما قد نصفه بالواقعية السحرية وبعلاقة خاصة جدا مع الضوء واستخداماته فنيا. يسرح بخياله عبر النافذة فيعيد إلى البيوت والمناظر الطبيعية سحرا قد غادرها منذ زمن، تصبح أشبه بأحلام ومنامات الطفولة، كل ما فيها زاهى وحنون. رغم الخوف الذى سيطر على الناس وعليه بالطبع خلال رحلة الهرب والأسى الذى تسبب فيه النزوح إلا أنه قادر على الاستمتاع بغروب الشمس ونقل سطوعها عبر لوحاته.
• • •
البيوت تزينها زهور الجهنمية بلونها الأرجوانى الزاعق. على الأغلب هى تشبه ما ورد فى حكايات الأهل عنها، جدرانها محملة بضحكات ودموع من سكنوها قبل الدمار الذى أصاب كل شىء منذ بداية الصراع. أسلوبه التجريدى يجمع بين اللون والتكوين بطريقة مبتكرة، مع اختزال مدهش للعناصر المختلفة للمشهد. التفاعلات الضوئية والتوليفات اللونية تجذب العين وتخلف عمقا بصريا. هو يرسم المنازل التى كانت تضج يوما بالحياة ويلونها وأشجارها بالأصفر والأزرق والأحمر والبرتقالى والبنفسجى فيزيح عنها الحزن والغم. يحتفظ برونقها ويبعدنا تماما عن صورة البيوت المهجورة التى تشكو من الخراب ويخشى أهلها أن تسكنها الأشباح بعد رحيلهم. هواجس عديدة باتت تسيطر على النازحين واللاجئين الذين يعتزمون العودة لديارهم، فالبيوت الفارغة قد تغرى الجن بالمكوث فيها كما ورد فى الأساطير والموروث الشعبى، خاصة وأن الشوارع غارقة فى الظلام ويملأها عواء الكلاب.
هو لا يرغب أن يتناول هذا الجانب البشع، ولا أن يتعرض لقصص البيوت التى استولى عليها الغرباء والمأجورون فى ظل غياب سلطة قانونية فاعلة، فالخبراء يحذرون من انتشار الظاهرة ويطالبون بإدراج قضايا الملكية ضمن مسارات العدالة الانتقالية
والتوثيق المستقبلى للانتهاكات. ولا يريد البكاء على أشيائه ومتعلقاته التى فقدها، بما فى ذلك أعماله الفنية السابقة التى تناولت دوما المناظر الحضرية وتطورات المدينة العمرانية، خاصة فى ظل تراجع الطبقة الوسطى التى غادر أبناؤها سعيا وراء فرص أوفر أو هربا من النزاعات المتلاحقة. لم يعد يجذبه تضاد الأبيض والأسود الذى كرس له أول معارضه الفردية بالمعهد الثقافى الفرنسى بالخرطوم حينما قرر التفرغ للفن عام 2011. ربما لو رسم بورتريهات كتلك التى أنجزها فى ذلك الوقت لن تكون ألوانها بهذا الوضوح، فكل الأطراف صار لها ما لها وعليها ما عليها.
• • •
قبل وصوله إلى القاهرة، انتقل مع أسرته إلى الضواحى الجنوبية للعاصمة السودانية، بعد أن قضى بعض الوقت فى وسط المدينة تحت وطأة الحرب، ثم اتجه إلى وادى حلفا، على بعد 3 كم من الحدود المصرية. ترك مرسمه بكل ما فيه، وترك معه ألوان الخرطوم الترابية واختار أن يعيد لها بريقها ويسترجع ذكريات المكان بكل ما فيها من حلو ومر ودفء. وأثناء وجوده مع عائلته فى القاهرة يحاول أن يبيع ما أنجزه من لوحات جديدة، خاصة عبر شبكة من العلاقات
تكونت فى المهجر لربط الفنانين السودانيين وتسويق أعمالهم. الكثيرون منهم يقيمون حاليا فى مصر وإثيوبيا وكينيا. وفى هذه الأخيرة ازدهر سوق الفن التشيكلى نظرا لنشأة مؤسسات فاعلة فى هذا المجال منذ بداية الألفية، تطورت كثيرا ما بين عامى 2000 و2010، فصارت نيروبى مركزا فنيا وترويجيا هاما لدول شرق إفريقيا. كما أن هناك فرصة أخرى لتسويق أعماله وغيره من مواطنيه فى مدينة نيوأوليانز بالولايات المتحدة الأمريكية، فهى حاضنة لموسيقى الجاز والجرافيتى ولوحات فنانى القارة السمراء بحكم تاريخها وتركيبتها التعددية.
وسائل التواصل الاجتماعى خدمت خالد عبد الرحمن وزملاءه من الفنانين السودانيين الذين لم يتبعوا الاتجاهات التى فرضها النظام الإسلامى على مدار ثلاثين عاما سيطر فيها على الحكم. علم نفسه بنفسه بعيدا عن كلية الفنون الجميلة والتطبيقية
وعن مدرسة الواحد التى صاغ بيانها الرسمى سنة 1989 الدكتور أحمد عبد العال، وهوأكاديمى خصص جل دراسته للمبادئ الجمالية فى الحضارة الإسلامية وطرحها كبديل لما هو سائد. لذا فخالد لم يلجأ للطرق والقنوات التقليدية لكى يطرح إنتاجه الفنى، وهو ما يفعله حاليا أيضا بعد تجربة النزوح لكى ترى أعماله النور ويتم تداولها، ولكى تظل بيوت الخرطوم عامرة بناسها وألوانها المتخيلة.