زهران ممدانى.. انتصار الديمقراطية أم مقدمة لتقويضها؟

السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:30 م

فوز زهران ممدانى برئاسة مدينة نيويورك ليس مجرد حدث انتخابى عادى، بل هو تجسيد عميق لمفهوم الديمقراطية ومعناها وأهميتها، خاصة فى الوقت الذى يسيطر فيه الجناح اليمينى على مقاليد الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية، والخطاب الرسمى المعادى للمسلمين والمهاجرين. فممدانى يجسد كل ما هو مخالف للأيديولوجية السائدة فى السياسة الأمريكية اليوم، فهو مسلم، مهاجر، شاب فى منتصف الثلاثينيات، ومنتمٍ إلى التيار الاشتراكى الديمقراطى الذى تعتبره الإدارة الأمريكية الحالية فكرًا غير متسق مع الأيديولوجية الأمريكية. وعلى الرغم من تحديه العلنى للرئيس الأمريكى وسياساته الداخلية والخارجية، والمعارك الكلامية التى دارت بينهما قبل الانتخابات، ودعوة الرئيس العلنية لمواطنى نيويورك إلى عدم انتخابه، فإن هذه الدعوات لم تجدِ نفعًا، ولم تحاول مؤسسات الحكم الأمريكية منعه أو قمعه، وهو ما يعكس مرة أخرى أن النظام الأمريكى، بالرغم من الانتقادات الموجهة إليه، ما يزال محتفظًا بمساحات حقيقية من الاستقلال السياسى على مستوى الولايات والمدن.


التفاعل الدولى الكبير مع فوز ممدانى يعكس أيضًا التطلع إليه كنموذجٍ لشابٍ مهاجرٍ ثائرٍ على أوضاع اللامساواة فى أكبر مدن العالم وقلعة الرأسمالية العالمية، كما أنه أعاد تجسيد «الحلم الأمريكى» بأن يصل شاب مسلم مهاجر من أصول هندية إلى واحدٍ من أهم المناصب السياسية فى الولايات المتحدة. هذا الحلم الأمريكى يُعد أحد مصادر القوة الناعمة للولايات المتحدة الأمريكية.


المميز فى حملة ممدانى الانتخابية أنه ــ ورغم كونه مسلمًا ومهاجرًا ــ لم يؤسس خطابه السياسى على الهوية أو الدين أو العرق، بل على رؤيته الاقتصادية والاجتماعية، ووضع برنامجًا واضحًا يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص الفجوات الاقتصادية. هذا الخطاب عزّز مكانته وشعبيته بين شرائح متنوعة دينيًا وعرقيًا وثقافيًا، ما جعل فوزه لا يمثل فقط فئة أو طائفة، بل يعبر عن روحٍ جديدةٍ فى السياسة الأمريكية تتجاوز الانقسامات التقليدية نحو قضايا العدالة والمساواة.


والمثير أيضًا أن فوز ممدانى يأتى فى لحظةٍ تاريخيةٍ حساسة، فهو أحد أبرز المنتقدين للسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وأشد المعارضين للاحتلال الإسرائيلى والانحياز غير المسبوق للإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل، وقد عبر بوضوح عن رفضه لما يجرى فى غزة، واعتبره إبادة جماعية، وهو موقف لم يجرؤ كثير من السياسيين الأمريكيين على اتخاذه علنًا. هذا الموقف أعطى لفوزه بُعدًا أخلاقيًا، وجعله صوتًا للضمير الإنسانى داخل المشهد الأمريكى.


يعكس فوز ممدانى عدة دلالات؛ أولها أن الديمقراطية ليست غايةً فى ذاتها، بل وسيلة لضمان تمثيل المواطن فى عملية إدارة الدولة، وهى الضمانة الوحيدة ضد الاستبداد واحتكار السلطة. فالديمقراطية لا تُقاس فقط بنتائجها، بل بقدرتها على فتح المجال أمام التعددية والمساءلة وتداول السلطة. إن النظام السياسى الأمريكى ــ بالرغم من تناقضاته ــ يقوم على فكرة التعددية، والفصل بين السلطات، والرقابة المتبادلة بين أجهزة الدولة، وسيادة القانون، والمجتمع المدنى النشيط، وحرية الرأى والتعبير. وبالتالى، فإن حصول أحد المرشحين من خارج المنظومة التقليدية على هذا الحجم من التأييد يدلّ على أن الديمقراطية الأمريكية ما زالت قادرة على التماسك بالرغم من التحديات.


يكمن الاختبار الحقيقى فى كيفية تفاعل وتعامل الإدارة الأمريكية مع فوز ممدانى، ففى حال محاولة التدخل خارج الإطار القانونى والدستورى لوأد التجربة أو تقويضها، فإن ذلك سيكون اختبارًا حقيقيًا لصلابة المؤسسات الديمقراطية فى أمريكا وقدرتها على حماية التعددية من محاولات الإقصاء. كما سيُظهر ما إذا كانت الديمقراطية الأمريكية قادرة فعلاً على استيعاب الأصوات المختلفة التى تتحدى السرديات التقليدية فى السياسة الخارجية والداخلية، أم أنها ستظل محصورة ضمن حدود المسموح والمألوف. فالمسألة لا تتعلق بشخص ممدانى فحسب، بل بمدى استعداد المؤسسات السياسية الأمريكية للسماح لتيارات فكرية جديدة بأن تجد مكانها فى المشهد السياسى الأمريكى، ومدى قناعة النخب الأمريكية والمواطن الأمريكى بأن الاختلاف والتعدد والتنوع هو المصدر الحقيقى لقوة وصلابة المؤسسات السياسية الأمريكية.
ختامًا، فإن فوز زهران ممدانى لا يمثل تحولًا سياسيًا داخل مدينة نيويورك فحسب، بل هو لحظة رمزية تعيد التذكير بمزايا الديمقراطية بوصفها الضمانة الحقيقية للاستقرار وحماية التعددية. ففى الوقت الذى تتزايد فيه حدة الانقسام والاستقطاب فى مختلف دول العالم حول قضايا الهوية الدينية والعرقية، يقدم ممدانى نموذجًا لسياسى يستمد شرعيته من مشروعه الاقتصادى والاجتماعى.


أستاذ مساعد السياسات العامة- الجامعة الأمريكية بالقاهرة

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة