كان العالم يحتفل باليوم الدولي للغة العربية منذ أيام، بينما تهوي معاول الهدم على مقبرة ومدفن أمير الشعر والشعراء أحمد شوقي. أعظم من كتب العربية وأنشد بها ربما في تاريخ لغتنا. لا محل للجدال حول رمزيته وخلوده، حتى أصبحت "شوقياته" أهم ديوان للإنسان العربي المعاصر، ومنطلقًأ لإبداع أصحاب المواهب، ومدخلًا للنشء إلى الثقافة العامة وإجادة اللغة، فضلًا عن انتقاله الملهِم إلى الشعر الغنائي بالعامية.
إنه شوقي وكفى. إذا ذُكرت لُغتنا "التي كانت جميلة" لا يتبادر إلى الأذهان شيء قبل بيته الختامي من قصيدة "قف ناج أهرام الجلال":
إن الذي ملأ اللغات محاسنًا :: جعل الجمال وسرَّه في الضادِ
لم يشفع اليوم العالمي للغة العربية لمرقد شوقي، فحُطّم والبقاء لله. ثم علمنا لاحقًا أن رفاته نُقلت إلى مشروع "مقبرة الخالدين" منذ أشهر دون إعلان أو تكريم ملائم، مع تركيبة قبره التي نُقش عليها بيتان من "نهج البردة" يتضرع بهما إلى الله.
يأتي هذا بعد أسابيع من افتتاح المتحف المصري الكبير والمجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون، الذي بنى شوقي لذكرى الكشف عن مقبرته صرحًا إبداعيًا لا يُبارى:
جلال الملك أيامٌ وتمضي :: ولا يمضي جلالُ الخالدينا
سلامٌ يوم وارتك المنايا :: بواديها ويومَ ظهرت فينا
امتزجت ثمار قريحة شوقي بأرواحنا وتجاربنا، فباتت في قلب النسيج المعرفي للإنسان العربي غير قابلة للإلغاء أو النسخ.
فذروة الحنين لمصروعشقها لدى شوقي: "وطني لو شُغلت بالخُلد عنه :: نازعتني إليه في الخُلد نفسي". ومنتهى الاحتفاء بالنيل وخلوده من شوقي: "ومن السماء نزلت أم فُجرت من :: عليا الجنان جداولًا تترقرقُ".
وأقدس ما تغنى به العرب من أجل الحرية منذ ثوار سوريا ضد الاحتلال الفرنسي وحتى يحيى السنوار، جرى في البدء على لسان شوقي: "وللحرية الحمراء باب :: بكل يدٍ مضرجة يُدق". وغاية مديح الرسول عند شوقي في: "ولد الهدى، ونهج البردة، وسلوا قلبي".
لقد تجاوز إسهام أعظم المبدعين في صناعة الأيقونة وتأطيرها، إلى أن صارت أبياته بذاتها الأيقونة، بألف ولام التعريف، في كل مناسبة وعصر.
ولو أن في تاريخ أيّ أمة متحضرة مثل شوقي لحظى بتكريم متواصل لا يقتصر على تخصيص بيته كمتحف، ولبقيَت رفاته محمية ومكرّمة في مرقده دون انتهاك، وأيًا كانت الظروف.
قبل عامين ونصف صدر قرار وزير الإسكان رقم 233 لسنة 2023 بإضافة 86 مدفنًا بنطاق حي الخليفة والمقطم إلى سجل المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المميز "وأولها برقم (1) مدفن أمير الشعراء أحمد بك شوقي برقم توثيق 024000097" بناء على تقرير لجنة الطراز المعماري المتميز بمحافظة القاهرة. في اعتراف صريح من الدولة بالقيمة الأدبية والتراثية للمدفن.
وفي أغسطس 2023 هُدمت بليل جميع تركيبات المدافن المجاورة لمدفن شوقي داخل الحوش الذي أنشأه في الأصل والد زوجته حسين باشا شاهين. علم الرأي العام بذلك بفضل جهود باحثين وموثقين دؤوبين مثل د. مصطفى الصادق والباحث محمد عبدالمالك. ثم أُغلق المدفن بأقفال وترابيس حديدية، وهُدمت مقابر كثيرة في محيطه وأُنجز المحور المروري بالفعل وتم تشغيله.
حتى فوجئنا الصيف الماضي بعودة الحديث عن نقل رفات شوقي تمهيدًا لإزالة المقبرة، في ظل غياب كامل للمعلومات والشفافية، لا سيما وأن محافظة القاهرة نفت من قبل –رسميًا- نية الإزالة.
تلك المقدمات تجعلنا نسأل: ما الهدف؟! فالطريق الجديد واسع ولا تعيقه مقبرة شوقي، وأي تغيير في المنطقة كان يقتضي احترام الإرث والخصوصية بتوفير البديل المناسب، حتى قبل الالتزام بنص المادة 50 من الدستور التي تجرّم الاعتداء على الرصيد الثقافي المعماري المعاصر، والمادة الثانية من القانون 144 لسنة 2006 التي تحظر صراحة "الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية أو التي تمثل حقبة تاريخية" والمادة الثانية عشرة من القانون ذاته التي تعاقب المخالف بالحبس من سنة إلى خمس سنوات بالإضافة إلى غرامة تتراوح بين مائة ألف وخمسة ملايين جنيه!
إن إنشاء مقبرة مجمعة للخالدين كما شاهدنا في الصور التي نشرتها محافظة القاهرة، محاولةٌ لإبراء الذمة وربما الاعتذار المتأخر لضحايا الإزالات، لكنها في تقديري لن تعيد ما راح، ولا تعالج تجاوزًا قانونيًا لا يستقيم في دولة رأسمالها الأهم هو تاريخها، أو كما قال صاحبنا شوقي:
إن تسألي عن مصرَ حوّاءِ القرى :: وقرارةِ التاريخِ والآثار
تلك القبور أضنّ من غيبٍ بما :: أخفت من الأعلاق والأذخار