x قد يعجبك أيضا

ثقافة الجمهور

الثلاثاء 29 أكتوبر 2024 - 7:00 م

نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبد الإله بلقزيز، تناول فيه الفرق بين ثقافة الجمهور والثقافة الشعبية.. نعرض من المقال ما يلى:

من الأخطاء الشائعة حسبان ثقافة الجمهور، أو الثقافة الجماهيرية فى التعبير الدارج، ثقافة شعبية. ربما عاد سبب مثل هذا الخلط بين الثقافتين إلى كونهما تشتركان فى السمة عينها: سعة الانتشار والتداول مقارنة بالثقافة العالمة، أو ثقافة النخبة، التى تضيق مساحة المنتمين إليها وقاعدة متداولى موادّها. وربما عاد إلى أن مستهلك الثقافتين واحد، هو الشعب بما هو الجمهور الأعظم عددا فى المجتمع. وقد يعود سبب ذلك، ثالثا، إلى أن الثقافتين معا تتوسلان ــ فى العادة ــ اللغة عينَها: الشائعة والدارجة فيسهل على الناس، بالتالى، أن يتداولوهما من غير عُسر. مع هذه المشتركات بينهما جميعها، فإنه لا يراد من معنى أى منهما معنى الثانية، إذ هما من مَنْبتيْن مختلفين والفاعل فيهما ليس واحدا.

ثقافة الشعب ينتجها الشعب، فهى منسوبة إليه من حيث هو مصدرها، وليست تلك هى حال الثقافة الجماهيرية التى يصعب، تماما، أن تُوسَم بأنها ثقافة شعبية أو أن تُنسب إلى الشعب فيُزْعم أنه صاحبها.

الثقافة الجماهيريّة ليست منتوجا شعبيا، إذن، بل هى منتوج نخبوى، إذِ النخب هى من تصطنعها وتوزّعها. لا يغير من حقيقة هذا أن تلك الثقافة تتوسل لغة مُبسّطة أدنى إلى لغة الشعب من لغة النخب، فتلك حيلة ضرورية من أجل تمكين المادة الثقافية من أن تفشوَ ويتسع نطاق انتشارها لتكون جماهيرية.

وهذه الحقيقة لا تُدْرك إلا متى أخذنا فى الحسبان أن الجماهيرية المتغياة، فى عملية صناعة هذه الثقافة، هى جماهيرية مَهدوف إلى تحصيلها لأن ما يترتّب عنها من المنافع والمصالح وفير. لذلك ليس من أغراض جمالية فى ذاتها فى هذه الثقافة الجماهيرية، نظير تلك التى نجدها فى الثقافة الشعبية، وإنما الجمالى فيها مجعول للجذب والإغراء ليس أكثر.

حين نعرِّف هذه الثقافة الجماهيرية بأنها ثقافة نُخب، لا نعنى بذلك أنّها ثقافة عالِمة، لأن هذه ــ بكل بساطة ــ لا يمكنها أن تكون جماهيرية ولا أن تصير، يوما، إلى الجماهيرية لأنها عوصاء على السواد الأعظم. إنها ليست ثقافة الشخصيات الفكرية والأكاديمية وكبار الأدباء، وإنْ كان الأدب والفكر فى جملة ما يمكن أن يدخل فى تكوينها، بل ثقافة نخب وسطى واسعة من الفئات الساسية والإعلامية وأهل الفن من الذين يستطيعون التّأثير فى شرائح واسعة من فئات المجتمع وطبقاته بالمادة الثقافية التى ينتجونها: أكانت خطابا سياسيّا أو خطابا إعلاميا أو مادة إعلانات أو منتوجا فنيّا مسموعا ومرئيّا.

فى وُسع هذه المصادر المختلفة أن تنسج ثقافة عامة عابرة لحدود الفئات، وواسعة الانتشار إلى الحد الذى تكون فيه جزءا من الثقافة الجمْعية داخل المجتمع. أن تكون هذه الثقافة قادرة على الفُشوّ أكثر من سواها من الثقافات أمر مردُهُ إلى مفعولية الوسائط التى تنقلها إلى الجمهور الأوسع وقوّتها الإنفاذية، حين تملك تلك الوسائط، من إذاعات وتلفزات وإعلانات إشهارية وأقراص مدمجة وفيديوهات وصالات عرض...، قدرة على تعميم المادة الثقافية على العموم الاجتماعى، وعلى تكرار تقديمها وصولا إلى ترسيخها وتصييرها مألوفة.

من الواضح أن لهذه الثقافة الجماهيرية أكثر من وظيفة، فإلى أنّها تستدرج من يستهلكها إلى المزيد من الانجذاب إلى المصادر التى تنتجها، وإلى أنها تُحقّق رغبة لدى صناعها فى تكريس اتجاهات فى الرّأى دون أخرى، وفى توليد أذواق وحساسيات جمالية بعينها وترسيخ قيم دون أخرى، فهى توفّر فرصا للربح وتعظيم المكاسب المادية من وراء نشرها.

لذلك يكون الغالب على المادة الثقافية الجماهيرية أن تخضع لعملية تسليع واسعة النطاق، وأن تقدّم نفسها فى صورة معروضات وسِلع للاقتناء. أما ما لا يأخذ منها شكل سِلع وبضائع، مثل المادة الثقافية السياسية والحزبية والإعلامية، فإن المغانم المتحصلة منها تكون، على الأغلب، سياسية وإيديولوجية، وهى ليست منفصلة تماما عن نقطتى الجذب الرئيسيتين: المال والنفوذ.

النص الأصلى 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة