«لقد قلت وأكرر: أنا لم أحقق فيلمًا تاريخيًا. فيلمى ليس سوى رؤية شخصية حتى وإن كان قد استند إلى وقائع محددة (...). أنا لم يكن فى نيتى أبدًا أن أعطى رؤية شاملة عن الجزائر كلها فى تلك الحقبة التاريخية، خاصة أننى إنما كنت أعيش خلالها فى قرية صغيرة (...). بيد أن رؤيتى تحيل إلى مرجعيات تاريخية محددة، وهذا ما جعل سياق الفيلم يوزع على عناوين مختلفة تظهر على الشاشة…». طبعا الفيلم الذى يتحدث عنه محمد الأخضر حامينا، هنا ليس سوى تحفته التاريخية «وقائع سنوات الجمر» الذى من تصاريف القدر أن هذا المخرج الكبير قد رحل عن عالمنا قبل أيام فيما مهرجان كان السينمائى يحتفل بخمسين عامًا يومًا بيوم، على منحه أرفع جوائزه، «السعفة الذهبية» التى نالها الفيلم فى مايو عام 1975 لتكون أكبر انتصار حققته سينما عربية حتى اليوم. صحيح أن حامينا (1934 ــ 2025) قد عاش منذ ذلك الحين على هذا الانتصار الفريد، لكنه أبدا لم يتخل عن المرارة التى أصابته جراء ردود الفعل العربية والجزائرية التى جابهته حينها. وذات يوم قبل عشر سنوات فى وهران الجزائرية عاد أمامى إلى حديث تلك المرارة فكان جوابى الوحيد استعارة ما قاله لى محمود درويش مرة من أن أسوأ ما قد يصيب عربيا فى هذا العالم، هو نجاحه فى أى مجال من المجالات. لأننا، وبحسب درويش «شعوب تحب الهزائم، فإن انتصرنا نعزو الانتصار إلى عوامل تجعلنا نكرهه..!»، ويومها «عزّيت» صديقى حامينا بقولى: «لك عزاء فى الكبيرين نجيب محفوظ ويوسف شاهين. حين نال الأول جائزة نوبل، ومن بعده الثانى سعفة خمسينية «كان» نفسه، انطلق الكورس العربى المعهود شاتمًا مخونًا، غاضبًا منددًا».اليوم صار أولئك الكبار الثلاثة فى ذمة التاريخ ومع ذلك لا يزال هناك من يعتبر انتصاراتهم نكسات عربية! وكذلك صار درويش فى ذمة التاريخ، وربما نجده حيث هو الآن، مبتهجًا لكونه لم يفز بواحدة من الجوائز العالمية الكبرى هو الذى لم يكن فى حاجة إلى مزيد من الأعداء.لقد رحل محمد الأخضر حامينا، عن أكثر من تسعين عامًا، دون أن يتمكن من تحقيق تحفة سينمائية كبيرة أخرى تليق بتاريخه، ولا أية جائزة كبيرة أخرى، لكنه فى الحقيقة لم يكن فى حاجة ماسة إلى هذه الجائزة كى يثبت مكانته وشعبيته فى سينما بلاده. فالأخضر حامينا، ومن قبل ذلك الفيلم التاريخى الضخم، والسجالى بحدة فى تعاطيه مع تاريخ الثورة الجزائرية، كان قد عرف على نطاق محلى وعالمى بعدد لا بأس به من أفلام سينمائية، طويلة خاصة ولكن قصيرة أيضًا حققها، ويدور أفضلها حول الحرب والثورة الجزائريين. بل إن كثرًا من النقاد الأكثر جدية وإنصافًا، يفضلون على فيلم السعفة الذهبية، فيلمه الروائى الطويل الأول «رياح الأوراس»، الذى حقق وعرض بين العامين 1965 ــ 1966، وكان له الفضل، إلى جانب عدد قليل من أفلام حققها الجزائريون بأنفسهم، فى إمساك السينمائيين الجزائريين لسينماهم بأيديهم، بعدما كان «التأييد» السينمائى للثورة والشعب الجزائريين، يأتى من مخرجين أجانب، ولا سيما فرنسيين، وصولاً إلى جيلو بننوكورفو الإيطالى ويوسف شاهين المصرى.فـ«رياح الأوراس» ينتمى إلى «سينما الحرب» التى لن تتوقف عن الظهور فى السينما الجزائرية منذ ذلك الحين، وبإفراط أحيانًا، وسجل، إلى جانب «الأفيون والعصا» (1969) لأحمد راشدى، الدخول السينمائى للجزائر من الباب العريض، وذلك من خلال حكايته البسيطة عن أم (الرائعة كلثوم) تجابه الحرب من خلال سجن الفرنسيين لابنها. فيلم بريختى بالأسود والأبيض تحول بسرعة إلى واحدة من كلاسيكيات السينما الإنسانية فى العالم. وهو مهد بالتأكيد لتلك المكانة التى سيحوز عليها الأخضر حامينا، عالميًا بفضل «وقائع سنوات الجمر» الذى قد يكون أكثر منه تقدمًا من الناحية التقنية، ومشاكسة من الناحية التاريخية، وبراجماتية من الناحية السياسية، لكنه يبقى على الصعيد الإنسانى أكثر عمقًا. ولئن كان الأخضر حامينا قد استنكف فى «رياح الأوراس» عن الغوص فى تحليل الحرب، تاركًا خطاب فيلمه على مستوى الحدث الإنسانى، معتمدًا فى قوته التعبيرية على أداء كلثوم الاستثنائى التى ربما يكون من الصواب القول إنها حملت الفيلم وأعطته قدرًا كبيرًا من قوته، معيدة التعاطى مع الثورة الجزائرية وضحاياها إلى نقطة البداية بعد سنوات من حصول الجزائر على استقلالها فى اعتقاد عام بأن ذلك التاريخ لا بد أن يطوى قريبًا، فإن «وقائع سنوات الجمر»، اشتغل على التاريخ من موقع آخر تمامًا: «حلّل التاريخ، غير هيّاب فى خطابه الأيديولوجى، أو المضاد ــ للأيديولوجيا، أمام اتهامات له، كان واضحًا أنه سيجابه بها، بالخروج عن «الخط المستقيم» فى تحليله للثورة وجذورها وتعاطى أطرافها فيها».والحقيقة أن هذه السجالية أوصلت البعض إلى القول بأن «فضح» الفيلم لممارسات الثوار، معطيًا شفعة، ولو مواربة، للمحتل الفرنسى، هو ما أعطى الفيلم جائزته الكبيرة. غير أن مثل هذا الكلام لم يصمد طويلاً، حتى وإن كانت الأفلام التى حققها الأخضر حامينا لاحقًا، بدت بشكل عام أضعف من الفيلمين السابقين هذين من الناحية السينمائية، وأكثر سجالية من ناحية الخطاب وعلاقته بالثورة والتاريخ.ولد محمد الأخضر حامينا العام 1934 فى مسيلا بالقرب من مدينة ستيف فى منطقة القسطنطينية. وهو تلقى فى البداية دراسة تقنية وزراعية وصولاً إلى المدرسة الزراعية فى انتيب الفرنسية، التى سرعان ما طرد منها، فانتقل إلى الدراسة الثانوية فى كان فطرد من جديد. ولاحقًا بعد التحاقه بالدراسة الجامعية فى، جنوب فرنسا، وجد نفسه يجند بالقوة فى الجيش الفرنسى، لكنه سوف يهرب بعد شهرين ويصل إلى تونس فى العام 1958 حيث التحق بالعمل فى وزارة الاتصالات التابعة للحكومة الجزائرية المؤقتة، وأصبح له أن يمضى فترة تدريبية فى «الأخبار السينمائية التونسية». فى العام التالى توجه إلى براغ لدراسة السينما فى معهدها الشهير FAMU حيث زامل بعض الذين سيصبحون لاحقًا من سينمائيى الموجة الجديدة التشيكية ولا سيما فيرا شيتيلوفا. لكنه سرعان ما ترك الدراسة النظرية ليخوض التدرب العملى فى استديو باراندوف متخصصًا فى التصوير. وهو فى تلك الأثناء بدأ يتطلع إلى الإخراج، فكتب وحقق مع أستاذ له ثلاثة أفلام قصيرة هى «جزيرة هوميروس» و«فى مملكة تيتون» و«كنوز ماضية» الذى سيفوز بالأسد الذهبى فى مهرجان البندقية. وهو، فى خضم ذلك توجه من جديد، إلى تونس حيث شارك كمصور فى العمل على عدة أفلام. ثم ما إن نالت الجزائر استقلالها حتى صور عددًا من الوثائق السينمائية عند مناطق الحدود بين تونس والجزائر، ثم جمع أفراد الفريق العامل معه فى تونس ليشكل منهم أساس ما سوف يحمل لاحقًا اسم «هيئة الاخبار السينمائية الجزائرية» OAA، وهى هيئة سوف يتولى رئاستها بين 1963 و1974 حين جرى حلّها... وتولى فى داخلها تصوير العديد من الشرائط الإخبارية، فى وقت كان يحضر لتصوير شريطه الروائى الطويل الأول «رياح الأوراس».بين «رياح الأوراس» و«وقائع سنوات الجمر» حقق الأخضر حامينا فيلمين روائيين طويلين آخرين هما «حسن طرّو» من بطولة رويشد، ثم «ديسمبر» من تمثيل ميشال اوكلير وعلى قويرت، وكان إنتاجًا مشتركًا مع فرنسا. أما بعد فيلم السعفة الذهبية، فإنه لم يحقق طوال أربعين عامًا، أى حتى العام 2015 سوى أربعة أفلام أخرى هى على التوالى «ريح الرمال» و«الصور الأخيرة"، اللذان حققهما فى العام 1982 و1986. ثم فى التسعينيات حقق فيلمًا واحدًا هو «خريف، أكتوبر فى الجزائر» أما فيلمه «غروب الظلال» فقد حققه فى العام 2014، ليعود من بعده، وفى سياق الاحتفالات الرسمية الجزائرية بذكرى الثورة، ليحقق فيلمًا أخيرًا، كان مصيره فى الحقيقة، مصير أفلامه القليلة المتتالية: حيث إنه لم يثر اهتمامًا كبيرًا، بحيث إن محمد الأخضر حامينا، الذى بات يعتبر واحدًا من أكبر وجوه السينما العربية، بدأ فى سنوات الأخيرة وجهًا مضيئًا ولكن... من الماضى. ومع هذا كان الذين يقاربونه، يعرفونه حتى آخر أيامه «شابًا متحمسًا»، محملاً بالمشاريع والآمال... وليس فقط سينمائيا خدمته ظروفه وإمكاناته التقنية ونظرة أهل بلاده ومسئوليها إليه على اعتباره أيقونة كبيرة يمكنها أن تزين المتاحف. ومبدعا يجسد مقولة محمود درويش: «إياكم والنجاح فى عالمكم العربى!».
مقالات اليوم حسن المستكاوي مساندة بيراميدز .. أم كتابة على الرمال؟! داليا شمس أحيانا يكون الموت أفضل محمد عبدالشفيع عيسى فى التشريح الاجتماعى للتقلبات السياسية.. مثال مصرى معاصر أكرم السيسى لا للذين يحبسون المال لأنفسهم! محمود عبد الشكور حياة فى قلب الموت إيهاب الملاح مصطفى ناصف تلميذ أمين الخولى صحافة عالمية الذكاء الاصطناعى لا يعوض العلاقات البشرية.. أثره السلبى على الصحة النفسية
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك