لاهاى.. بوجوتا.. واستقلال الإرادة

الخميس 17 يوليه 2025 - 11:33 م

بينما كان جيش الاحتلال الإسرائيلى يقصف المواقع السيادية والعسكرية العليا فى دمشق، أمس الأول، كان مكتب بنيامين نتنياهو يُبلغه بصدور قرار قضائى جديد من المحكمة الجنائية الدولية بلاهاى برفض طلب وقف التحقيق فى جرائم الحرب وضد الإنسانية بحق شعب غزة وبرفض إلغاء أمر اعتقال نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت.

ولم يحظ هذا التطور القانونى بالاهتمام الكافى من الإعلام العالمى والعربى الذى تجاهل أيضًا مؤتمر بوجوتا الطارئ لدعم القضية الفلسطينية ووقف الإبادة الجماعية فى غزة الذى عُقد يومى 15 و16 يوليو الجارى فى العاصمة الكولومبية، وأسفر عن اتفاق 12 دولة (منها العراق وليبيا وعمان) على منع توريد أو نقل الأسلحة إلى إسرائيل ومنع سفن الأسلحة والذخائر والوقود العسكرى من الرسو، ومراجعة أى عقود أو تمويلات من شأنها دعم الاحتلال والاستيطان.

تحاول دول «مجموعة لاهاى» بقيادة جنوب إفريقيا وكولومبيا باجتهاد ودأب تحويل نصوص أحكام وفتاوى القضاء الدولى إلى قرارات سياسية واقتصادية لمحاصرة المصالح الإسرائيلية. وبالتوازى صدر قرار «الجنائية الدولية» بناء على قواعد العدالة وحدها فى وقت تزيد فيه الضغوط الرسمية من واشنطن والتهديدات السرية للقضاة ومكتب المدعى العام. وتصدى القرار لمحاولة خطيرة لتكريس قاعدة النأى الكامل عن المحاسبة التى اعتادها الكيان الغاصب منذ غرسه نصلًا مسمومًا فى قلب المنطقة.

فالطعن على أمر الاعتقال استند فى جوهره إلى أن فلسطين تفتقر إلى عناصر السيادة المقررة للدول، وأنها وفقًا لاتفاقيات أوسلو لا تستطيع مساءلة أو ضبط أو محاكمة أى مواطن إسرائيلى على جرائم ترتكب فوق أراضى السلطة الفلسطينية والتى منها قطاع غزة، وبالتالى فلا يجوز للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أمر باعتقال مواطنين إسرائيليين بناء على قبول فلسطين كدولة عضو بالمحكمة بعد تصديقها على نظام روما الأساسى للمحكمة.

ورفضت المحكمة الاستناد إلى هذه النظرية للمرة الثانية. ولكن فلنتأمّل كيف يعكس هذا الدفع، المتدثر بالأوصاف القانونية، كل صور العنصرية الصهيونية! فهو قائم على أساس التمييز بين الوقائع والبشر على أساس الجنسية والعرق، فالإسرائيلى من حقه ارتكاب ما يشاء من جرائم بحق الفلسطينيين وعلى الأراضى الفلسطينية، دون أدنى رقابة من سلطة محلية أو دولية. وعندما نسأل عن دولة القانون المزعومة ترد علينا دول مثل أمريكا وألمانيا بمذكرات رسمية قُدمت العام الماضى إلى المحكمة الجنائية الدولية، تدّعى أن المحاكم الإسرائيلية كافية لتحقيق العدالة!

وتواصل العبث الصهيونى فى مذكرة الطعن المرفوضة بالادعاء بأن طلب تنفيذ أوامر الاعتقال سيمثل «تحفيزًا لدول العالم على انتهاك التزاماتها تجاه إسرائيل» وفقًا للقانون الدولى العام والأعراف الدبلوماسية! لا أظن أن أحدًا يتجرأ على هذه الوقاحة المثيرة للسخرية إلّا إسرائيل، فهذا الدفع ينطوى على نسف قواعد المحكمة من أساسها، وتخريب منظومة ملاحقة مجرمى الحرب التى انقلبت عليها أمريكا منذ ولّت نظرها شطر الأراضى الفلسطينية المحتلة فى عهد المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا ثم فى عهد المدعى العام الحالى كريم خان بمناسبة الحرب على غزة.

وبلغت الدفوع الإسرائيلية ذروة الهزل بزعم أن تنفيذ أوامر الاعتقال سيؤدى إلى «انتهاك حقوق الإنسان لنتنياهو وجالانت وقد يحرمهم من حريتهم بشكل غير قانونى». يمكننا إطلاق آلاف النكات و«الإفيهات» على هذه المفارقة، حيث يدافع مجرم حرب ومرتكب إبادة عن حقه فى التنقل والحماية وتحدى المساءلة، بينما يقتل المئات يوميًا بالقصف والتجويع.

لكن الأخطر أن كاتب تلك العبارات يؤمن بها مع غيره الكثير من السياسيين والدبلوماسيين، حقوق الإنسان لديهم حكرٌ على المؤمنين بحتمية إسرائيل ونظرية سلام الردع وانقضاء الحق الفلسطينى بالتقادم. رؤية لا تتنامى فقط بالنفاق والتواطؤ الغربى، بل أيضًا بخفوت الجهد العربى وتشتته، وعدم تبنى مشروع تنسيقى عابر للقارات من أجل القضية، أو الاكتفاء بظهور خجول كما حدث فى كولومبيا.

يتكامل قرار «الجنائية الدولية» مع قرارات «مؤتمر بوجوتا» فى اتجاه محاولة تقييد التوحش العارى للصهاينة، على الرغم من ضعف أدوات التنفيذ التى تتطلب قبل كل شىء استقلال الإرادة السياسية للدول وتعبيرها بحق عن انحيازات شعوبها.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة