مع التسليم بأن عنصرًا واحدًا بمفرده لا يمكن أن يفسر ظاهرة التطرف الدينى التى تتطور إلى ممارسة العنف والقتل، فإن هناك، بالمقابل، أمورًا لافتة تستحق الدراسة، لعل أبرزها أن نسبة كبيرة ومعتبرة من المتطرفين من خريجى الكليات العلمية والعملية، وتحديدًا من الأطباء. لا نتحدث هنا فقط عن الأعضاء العاديين، بل نشير أيضًا إلى القيادات المؤثرة، بل وفقهاء الدم والإرهاب كذلك!
وقد جاءت عودة التيارات الدينية وصعودها فى سبعينيات القرن العشرين عبر كلية طب القصر العينى، ومنها انطلقت إلى مختلف الكليات، وبدأ تمدد جماعة الإخوان فى النقابات المهنية عام 1984 عبر نقابة الأطباء أولًا، ثم امتد إلى مختلف النقابات المهنية.
شغلت تلك الظاهرة الكثيرين، ولكن د. خالد منتصر خصص لها كتابا كاملا صدر عن دار ريشة بعنوان «دماء على البالطو الأبيض»، محاولًا تحديد العلاقة بين كليات الطب تحديدًا وظهور هؤلاء المتطرفين، ومتسائلًا عما إذا كان الأمر يمثل ظاهرة حقيقية، أم مجرد ارتباط عابر لا يُعوَّل عليه. ومختبرًا ما إذا كانت أساليب ومناهج الدراسة فى تلك الكليات العملية تفرز عقولًا تؤمن بالسمع والطاعة، وتفتقد إلى الروح النقدية، وتخضع لسلطة أمير الجماعة.
يركّز د. خالد على كلية الطب بالذات دون غيرها، بالنظر إلى أنه تخرّج فى كلية طب القصر العينى عام 1983، مما جعله شاهدًا على مولد وصعود الجماعة الإسلامية فى تلك الكلية، كما أنه يعرف مناهج تدريس الطب. ولذلك يستنتج وجود علاقة ما بين المناهج التلقينية التى تعتمد على الحفظ وتغرس فكرة اليقين المطلق، والأبيض والأسود، وبين تلك العقلية الحدّية التى يسهل بعد ذلك توجيهها إلى التطرف والعنف.
ويرى أيضًا أن العلاقة مختلة بين طالب الطب والأستاذ المسيطر، الذى يبدو أحيانًا كما لو كان نصف إله، مما يسهل بعد ذلك أن تحل محلها علاقة السمع والطاعة فى سياق الجماعات الدينية.
تبدو دراسة الطب، فى رأى د. خالد، مثل عملية رياضية يقينية محكمة، لا أثر فيها للحوار والنقاش والنظرة النقدية، مع غياب كامل للثقافة الأدبية والفنية والفلسفية، ولدراسة علم النفس. ويظل الجسد أمام الطالب مجرد قطع منفصلة مثل أجزاء الماكينة، ويتم استهلاك معظم الوقت فى المذاكرة، أما التجربة والخطأ، والتشكك والحوار، فكلها أمور غائبة ومفقودة.
هناك من يخرج من تلك الدائرة، ولدينا شعراء وأدباء من الأطباء، ولكن أعدادًا كبيرة تُبرمج وفق هذا المنهج التلقينى، وهؤلاء من تستهدفهم جماعات التطرف، وتراهم واجهاتٍ نموذجية لنشاطها، خاصة أن مهنة الطبيب تتواصل مع كل فئات المجتمع وتؤثر فيها.
هى إذن ظاهرة جديرة بالتحليل والتفسير، ومنهج د. خالد هو دراسة بعض هذه الحالات بالعمق سيرةً ودورًا، والخروج بفكرة عامة وملامح مشتركة تتيح الوصول إلى نتائج، ثم اقتراح بعض الأفكار لتغيير المناهج الدراسية المغلقة التى تسهّل التجنيد والتطرف، والتى تجعل الطبيب الذى كانوا يطلقون عليه اسم «الحكيم» منظرًا للإرهاب، ومستخدمًا للحزام الناسف بدلًا من تقديم الدواء والعلاج.
تأخذنا الدراسة إلى سيطرة الأطباء على الجماعة السلفية فى الإسكندرية، وعلى جماعة الإخوان فى إحيائها الثانى، بل ووصولهم إلى قمة تنظيم القاعدة، ليس فقط على مستوى تنفيذ العمليات الإرهابية، ولكن كذلك على مستوى فقه القتل والدم تحت لافتة الجهاد.
الدعوة السلفية فى الإسكندرية حافلة بأسماء الأطباء منذ محمد إسماعيل المقدم، مؤسس هذه الدعوة، الذى تخرّج فى كلية الطب جامعة الإسكندرية، وياسر برهامى، صاحب الفتاوى العجيبة مثل إرضاع الكبير وفتوى الزواج من طفلة، الذى حصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة الإسكندرية، ثم ماجستير طب الأطفال من الكلية نفسها!
يتوقف الكتاب بالتفصيل عند ملابسات ظهور الجماعة الإسلامية فى طب قصر العينى فى السبعينيات، ودور طالب الطب عبد المنعم أبو الفتوح البارز فى مواجهة النشاط الطلابى اليسارى، ثم فى سيطرة الإخوان على هذا النشاط، وظهور قيادات الإخوان المهمة فى كلية الطب مثل عصام العريان وحلمى الجزار، وانتقال السيطرة إلى نقابة الأطباء، وإلى نشاط هيئة الإغاثة الإسلامية.
ومن أهم الأسماء التى يتعرض لها الكتاب بالتفصيل الطبيب سيد إمام، واسمه الحركى د. فضل، وله اسم حركى آخر هو عبد القادر بن عبد العزيز الشريف، وهو الأمير الخفى لتنظيم الجهاد، وصاحب الكتب التكفيرية الخطيرة مثل «العمدة فى إعداد العدّة»، وكتابه الذى لم يكتمل بعنوان «الإرهاب من الإسلام ومن أنكر ذلك فقد كفر!».
أما الطبيب أيمن الظواهرى فهو نسيج بمفرده فى التطرف المبكر وفى التناقضات العجيبة؛ فهو ابن حى المعادى، والمنتمى إلى أسرة شهيرة متعلّمة، والده أستاذ الصيدلة محمد الشافعى الظواهرى، وجده من ناحية الأم المترجم والدبلوماسى عبد الوهاب عزام، وجده الأكبر من ناحية الأب الشيخ محمد الأحمدى الظواهرى شيخ الأزهر.
ولكن أيمن الظواهرى انخرط فى جماعة متطرفة منذ سن الخامسة عشرة، ودخل الجامعة وهو متشدد بالفعل، وشارك فى نشاط الجماعة الإسلامية فى السبعينيات، وكان أحد مؤسسى جماعة الجهاد المصرية فى الخارج، وأصبح زعيمًا لتنظيم القاعدة بعد اغتيال أسامة بن لادن، ثم اغتيل الظواهرى بعد ذلك فى غارة أمريكية فى يوليو 2022.
يدهشنا أن هذا الطبيب تحوّل بسهولة إلى العنف والقتل، وعندما قُبض عليه بعد اغتيال الرئيس السادات، لم يجدوا أثناء تفتيش بيته مرجعًا واحدًا فى الطب، رغم أنه كان طبيبًا ممارسًا، ولكنهم وجدوا كتابًا لسيد قطب، وأعدادًا من المجلة العسكرية السوفيتية، وكتابًا عن تكتيكات كتائب المشاة فى المعارك دفاعًا وهجومًا!
يقترح د. خالد فى النهاية اعتماد مناهج «العلوم الطبية الإنسانية» التى تستوعب، بالإضافة إلى دراسة الطب، دراسة الثقافة والفنون والفلسفة والتاريخ، لتنمية التفكير النقدى، والحس الإنسانى بالفرد والجماعة.
هذه قضية خطيرة تستحق الاهتمام، فهل نتحرك قبل أن تتكرر المأساة؟!