نشر موقع درج مقالا للكاتبة نزيهة سعيد، توضح فيه أن ألمانيا تعيش جدلا سياسيا وشعبيا واسعا بعد قرار المستشار فريدريش ميرتس وقف تصدير المعدات العسكرية التى يمكن استخدامها فى غزة إلى إسرائيل، فى ظل تصاعد الانتقادات لسياسات برلين التقليدية المنحازة لإسرائيل، وتزايد الضغوط الداخلية والخارجية عليها لمراجعة مواقفها تجاه العدوان على الفلسطينيين، بين إرثٍ تاريخى ثقيل يربطها بدعم إسرائيل، وواقع إنسانى مأساوى فى غزة يكشف تناقض سياساتها ومعاييرها الأخلاقية.. نعرض من المقال ما يلى:
لم يتقبل جزء واسع من الرأى العام الألمانى قرار المستشار فريدريش ميرتس، «المسيحى الديمقراطى» المحافظ، بوقف تصدير أى معدات عسكرية يمكن استخدامها فى قطاع غزة إلى إسرائيل «حتى إشعار آخر»، وذلك بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو خطة للسيطرة على مدينة غزة.
وكما جرت العادة فى ألمانيا، يبدأ أى حديث عن حرب الإبادة فى غزة وجرائم الحرب الإسرائيلية بمقدّمة «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها ضد إرهاب حماس». فعل ميرتس ذلك وهو يعلن وقف التصدير، مؤكدا أن الخيار العسكرى ليس الحل الوحيد، وعلى إسرائيل السعى إلى «إطلاق سراح الرهائن والتفاوض على وقف إطلاق النار» بوصفهما أولوية لبرلين.
• • •
نال القرار دعمًا من شركائه فى الائتلاف، ومنهم «الاشتراكى الديمقراطى»، لكن انتقادات حادة وُجّهت إلى ميرتس بوصف الخطوة «تخلّيًا عن إسرائيل»، وهى تهمة حسّاسة فى السياسة الألمانية، التى تعتبر التزامها بأمن إسرائيل ووجودها تصحيحًا تاريخيا لجرائم الإبادة النازية بحقّ ستة ملايين يهودى فى أوروبا.
تصدّر الإعلام اليمينى الشعبوى هذا الهجوم ووصَف الخطوة بأنها «الخطأ الأكبر»، والمستشار بأنه «منعزل»، ما دفعه الى الظهور فى القناة الأولى مؤكدا أنّ «مبادئ سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل لم تتغيّر»، وأن بلاده ملتزمة بمساعدة إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، «لكنّ الحكومة لا تستطيع توريد أسلحة إلى صراع يوقع أعدادًا هائلة من الضحايا المدنيين».
من بافاريا، رأى خبير السياسة الخارجية فى الحزب «المسيحى الاجتماعى» شتيفان ماير، أنّ معاناة نحو مليونى إنسان فى غزة حقيقة، لكن «السؤال هو هل الوقف الجزئى لتوريد الأسلحة هو الردّ الصحيح؟ رأيى ورأى كثيرين مختلف». وأعرب عن خشيته من أن تردّ إسرائيل بتقييد صادراتها الى ألمانيا، خصوصًا فى الدفاع السيبرانى وأنظمة مضادات المسيّرات والمظلّات الدفاعية والتعاون الاستخبارى.
بدوره، وصف خبير «المسيحى الديمقراطى» رودريش كيزفيتر القرارَ بأنّه «خطأ سياسى واستراتيجى فادح»، معتبرًا أنّ «مصداقيتنا تُقاس بتعاوننا الأمنى والتزامنا بحماية حياة اليهود ودولة إسرائيل»، مؤكداً أن «صديقا كإسرائيل سيستخدم الأسلحة وفقًا للقانون الدولى». وكما هو متوقّع، هاجم نتنياهو القرار واتّهم ميرتس بأنه «يكافئ إرهاب حماس».
• • •
تحت مظلة التزامها أمن إسرائيل ووجودها، تقع ألمانيا فى فخّ سياسات معادية لفلسطين والفلسطينيين. فاللاجئون القادمون من فلسطين تسجل لديهم خانة «الجنسية» على أنها «غير موجودة» فى حالات كثيرة على رغم ما يبرزونه من إثباتات. وعلى شاشات وسائل الإعلام، تُفتح الأبواب على مصاريعها للرواية الإسرائيلية، بينما تُضيَّق المساحة على الرواية الفلسطينية، حتى على من يعيشون فى ألمانيا ويزيد عددهم على المائة ألف.
منذ 22 شهرا، لا تغيب صور قمع التظاهرات المؤيّدة لفلسطين: جرّ المتظاهرين إلى المحاكم بتهم مطاطة كـ«معاداة السامية»، أو «ترديد شعارات ممنوعة»، أو «الاعتداء على رجال الأمن».
واعتبر «المركز الأوروبى للدعم القانونى» (ومقرّه برلين) عنف الشرطة «متعمَّدًا»، ووثّق أساليب قمع شائعة: رقابة، معلومات مضللة، تشهير، اعتقالات، تدخل أمنى، وتبعات قانونية ومالية ومهنية؛ وسجّلت 766 حالة منذ 2019، بينها 300 حالة تورّطت فيها الشرطة.
وأوقف «مجلس شيوخ برلين» تمويل مركز ثقافى فى نويكولن وقرّر إغلاقه لرفضه إلغاء فعالية لمنظمة «صوت يهودى من أجل سلام عادل فى الشرق الأوسط»، ووصَف المنظمة بأنّها «معادية للسامية» على رغم أنّها يهودية. وأُلغيت حفلات وعروض ومحاضرات وجوائز لأشخاص يُظهرون تضامنًا مع فلسطين، ما ضيّق المساحات المتاحة للحديث عنها.
كما برز تطبيق انتقائى للحريات الأكاديمية، خصوصا فيما يتعلق بنقد الاستعمار أو تحدى الروايات الإسرائيلية السائدة؛ تُحجَب الأعمال ويشكَّك فى مصداقيتها وتُلصَق بها تهمة «معاداة السامية». وقال أكاديمى: «أنت لا تتحدّى سياسةً فحسب، بل تتحدّى جوهر المؤسسة الأخلاقى». وكتب مهاتيب على عن واجهة «التميّز» التى تخفى نظامَ تعتيمٍ وتوافقٍ سياسى ومصالح متضاربة تُغذّى ثقافة الصمت – لا سيّما بخصوص فلسطين؛ إذ تُعاد صياغة «المعرفة القيّمة» وفق أولويات التمويل واقتصادات السمعة: «استبدادٌ معرفى هادئ». ولم تخلُ جامعات من استدعاء الشرطة إلى الحرم لقمع اعتصاماتٍ متضامنة مع غزة، وفصل عدد من الطلاب المشاركين فيها.
• • •
يتّخذ الإعلام الألمانى – بما فيه منصّاتٌ تُعرّف عن نفسها بأنها يسارية أو ليبرالية — موقفًا شديد التحفّظ حيال نقد إسرائيل فى غزة والضفة؛ يُحيل كثيرًا إلى مصادر أممية ودولية، وحتى هذه لا تحظى بتغطيةٍ كافية. ويبدو هذا «التحفّظ» أقرب إلى حيادٍ متواطئ مع الإبادة. أمّا الإعلام اليمينى الشعبوى فلا يتردّد فى الانحياز: إذ تتصدّر «بيلد» قصصَ الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، فيما تتجاهل عشرات الآلاف من القتلى فى غزة، وتتغافل عن جوع مليونى فلسطينى تُقنّن إسرائيل دخول المساعدات إليهم حدّ المجاعة.
يحمل هذا الإعلام ـــ أخلاقيًا ــــ دماءَ صحفيين فلسطينيين شيطَنَهم بوصفهم «إرهابيين» أو «أذرع بروباجندا». كان آخرهم أنس الشريف الذى قُتل مع طاقم «الجزيرة» فى غارةٍ مباشرة؛ وقد أُشير إلى أن «بيلد» قدّمتْه بدايةً بوصفه «إرهابيًا متنكرًا فى زيّ صحافى»، قبل أن تُبدّل العنوان لاحقًا.
ولفت صحفيون ألمان إلى سياسة تعتمد تشويه سمعة الصحفى مسبقًا وتجريده من صفته المدنية، بحيث يبدو قتله «مقبولًا أخلاقيًا»؛ ووُصفت وسائل إعلامٍ ألمانية بأنّها «قناة مباشرة لخطاب إسرائيل» يُعاد تدويره دوليًا على أنّه «أدلّة». كما لا تخفى مجموعة «أكسل سبرينجر» (المالكة لـ«بيلد») تماهِيها مع السياسة الإسرائيلية؛ فقد نُشرت لديها «استراتيجية حماس» المزعومة فى سبتمبر الماضى، ما أعاق – بحسب تقارير – مفاوضات وقف إطلاق النار بزعم أنّ حماس «لا تهدف إلى إنهاء الحرب سريعًا».
هذا كله لا يعنى غيابَ الأصوات الناقدة. إذ وقع أخيرًا أكثر من 200 ممثل وممثلة وموسيقى وإعلامى رسالة تحضّ ميرتس على وقف توريد الأسلحة وفرض عقوبات على إسرائيل، مشيرين إلى معاناة أطفال غزة: «ندين جرائم حماس بأشد العبارات، لكن لا توجد جريمة تبرر العقاب الجماعى لملايين الأبرياء بأبشع الطرق». وجاء فيها أنّ «هذه الخطوات تنسجم تمامًا مع القيم الأوروبية، وتُظهر للحكومة الإسرائيلية أنّ أقرب حلفائها لم يعودوا قادرين على تحمّل المعاناة، وأنّ الكلمات لم تعد كافية».
وأظهر استطلاع «دويتشلاند تريند» أن 66 فى المائة من المستطلَعة آراؤهم يرون أنّ على الحكومة زيادة الضغط لإجبار إسرائيل على تغيير سلوكها. وعلى رغم اعتقاد ألمانيا بمسؤوليةٍ خاصّة تجاه وجود إسرائيل، لا يؤيّد ذلك اليوم سوى 31 فى المائة – أقلّ بخمس نقاطٍ مئوية عن القياس السابق.
وعلى الرغم من إعلان عددٍ من الدول الأوروبية رغبتها فى الاعتراف بدولة فلسطين قريبًا، تقول الحكومة الألمانية إنّ الاعتراف «إحدى الخطوات الأخيرة نحو حلّ الدولتين»، مؤكّدةً أنّ أولوياتها «أمن إسرائيل ووقف إطلاق النار فى غزة وإطلاق سراح الرهائن ونزع سلاح حماس».
فى المقابل، حذّر وزيرُ الخارجية من عزلةٍ دبلوماسية متزايدة لإسرائيل بفعل الكارثة الإنسانية، محذّرًا أيضًا من «ضمٍّ إسرائيليّ محتملٍ لمناطق فلسطينية» وواصفًا إيّاه بأنّه «غير مبرّر قانونيًا»، ومجدّدًا رفض ألمانيا المستوطنات غير الشرعية فى الضفة. كما امتنعت برلين عن التوقيع على دعوةٍ قدّمتها 25 دولة — بينها المملكة المتحدة وفرنسا – لإنهاء الحرب «على الفور»، ما أثار انتقاداتٍ داخلية، خصوصًا لدى «الاشتراكيين الديمقراطيين» المشاركين فى الائتلاف.
• • •
تحمل ألمانيا إرثَ جريمةٍ تاريخية بحقّ أكثر من ستة ملايين إنسان، غالبيتهم من اليهود، قُتلوا حرقًا وغازًا وبأساليب أخرى. اليوم، يُترجَم التكفير عن الذنب -فى مراتٍ كثيرة- تضامنًا كاملًا وأعمى مع إسرائيل، ومع روايةٍ تاريخيةٍ مشوّهة لما كانت عليه فلسطين وأهلها. ومع أنّ برلين تُظهر خطواتٍ «ناعمة» لغسل الدم من يديها، إلّا أنّ العالم يرى ويسجّل؛ والمأساة الإنسانية المستمرّة لا يمكن إنكارها: ضحيتها أكثر من مليونَى شخصٍ بين قتيل وجريح ومكلوم وجائع ومصدوم وبائس.
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/yc8kbckz