شرفة أوروبا
السبت 23 أغسطس 2025 - 7:10 م
البحر قريب. حقل أزرق عارى. وفى الأفق، أنوار مدينة بعيدة نحاول أن نخمن اسمها. هنا من أعلى شرفة أوروبا بمدينة نيرخا الإسبانية، على مسافة 14 كم من المغرب بحرا، نقطعها فى حوالى الساعة عبر مضيق جبل طارق، تتسارع فى ذهنى الأفكار والخيالات. الملك ألفونسو الثانى عشر (1857-1885) الملقب بصانع السلام هو من أطلق عليها تسمية «شرفة أوروبا» عندما زار المدينة عام 1885 فى أعقاب زلزال مدمر أصاب المنطقة قبلها بعدة أشهر، وحين وقف فى هذا المكان تحديدًا، حيث كان موقع برج مراقبة تابع لحصن عربى قديم فى القرن التاسع الميلادى، قرر أن فى هذه النقطة تنتهى حدود أوروبا وتبدأ القارة السمراء.
نيرخا ليست أكثر المدن ارتباطًا بتاريخ العرب فى الأندلس، فهى ليست كقرطبة أو الحمراء، لكن صخرتها تلك التى شُيدت فوقها هذه الشرفة، وما حولها من مقاهٍ ومطاعم ومحالٍ تجارية سياحية اكتملت بشكلها الحالى فى ثلاثينيات القرن الماضى، تستدعى الكثير من التأملات خاصة فى وقتنا الحالى. ربما لأننا نشعر بسبب الظروف السياسية الراهنة أن هذا البحر يفصل أكثر من أى وقت مضى بين حضارات الغرب والشرق، كما يصلها أحيانًا. تتجلى فيه فكرة التلاقى والتباعد، فحرب غزة وضعت العلاقات بين العالم العربى والغرب على المحك، كما أن أوروبا تعج باللاجئين الذين يصعب حصرهم منذ أحداث «الربيع العربى»، ويصل عددهم إلى أربعة ملايين وفق بعض التقديرات الأممية، أما أعداد المهاجرين الذين يموتون غرقًا فقد حددت بعض الجمعيات الأهلية فى تقاريرها الصادرة فى ديسمبر 2024 أن أكثر من عشرة ملايين مهاجر لقوا حتفهم خلال العام نفسه وهم يحاولون الوصول إلى إسبانيا، قادمين من 28 دولة أغلبها إفريقية، بالإضافة إلى العراق وباكستان، بزيادة 58% عن العام السابق. ومن ناحية أخرى، تمكن من الدخول إلى إسبانيا بشكل غير شرعى أكثر من ستة آلاف مهاجر عبر البر والبحر، خلال الفترة الزمنية ذاتها.
• • •
ونحن ننظر إلى مساحة المياة الشاسعة أمامنا، ذكرتنى صديقتى بمأساة الشاب الذى تصدرت قصته الصحف أخيرا بعد ما تم إنقاذه وهو يحاول العبور إلى إسبانيا سباحة باستخدام عوامة نجاة. أنقذته عائلة قبالة شواطىء الأندلس الشهر الماضى، وذكرت بعض المصادر أنه مغربى وبعضها الآخر أنه مصرى. على كل حال هو مواطن ضمن 450 مليون شخص يسكنون حوض المتوسط ويحلمون بحياة أفضل. يصف المؤلف الأوروجوايانى، ادوردو جاليانو هؤلاء الغرقى فى كتابه «صياد القصص» (عن دار ورق)، قائلًا: «العالم يرحل. يحمل معه غرقى أكثر مما يحمل مبحرين. فى كل رحلة، يموت آلاف البائسين دون أن يكملوا رحلة العبور نحو الفردوس الموعود، هناك حيث، حتى الفقراء، يكونون أغنياء، وحيث يعيش الجميع فى هوليود».
نسير باتجاه تمثال الملك ألفونسو الثانى عشر ببزّته البرونزية، وقد أسند ظهره إلى السور واثقًا من الأهمية الاستراتيجية لهذه الشرفة التى حمت البلاد من أخطار الغزاة والقراصنة، كما نجح هو فى تحقيق الاستقرار السياسى وحمايتها من الاضطرابات والانقسامات الداخلية التى زعزعت الأمن طويلًا قبل أن يقضى على محاولات الانفصال ويؤسس نظامًا ملكيًا دستوريًا. يشرف على بيوت نيرخا الصغيرة البيضاء، فهى بالأساس قرية صيادين أندلسية تقليدية قبل أن تتحول إلى وجهة سياحية بامتياز بالقرب من مالاجا. وقد تميز عهد ألفونسو الثانى عشر بالحفاظ على التراث بما فى ذلك المرتبط بتاريخ العرب والموريسكيين، وهم مسلمو الأندلس الذين بقوا فى إسبانيا تحت الحكم المسيحى، وذلك رغم استمراره فى السياسة الكولونيالية. وقد ظلت آثار الحصن العربى القديم قائمة حتى هدمتها القوات الإنجليزية سنة 1812 أثناء حرب الاستقلال ضد الاحتلال الفرنسى لإسبانيا والبرتغال، وبُنيت الشرفة على الأنقاض، ولم يبقَ من هذه المرحلة التاريخية سوى بعض المدافع الضخمة والصدئة، إضافة إلى الأساطير التى تزعم وجود سراديب وأنفاق تحت الأرض، أسفل هذا الجرف الصخرى.
• • •
يذكرنا المدفعان الموجودان حاليًا على الشرفة بتلك المعارك الميدانية والفكرية والعقائدية الضارية التى كانت، ويجعلنا نركز على تلك التى ستأتى، ففى منتصف شهر يوليو الماضى اندلعت أعمال شغب مناهضة للمهاجرين فى منطقة مورسيا، جنوبى شرقى البلاد، على خلفية اعتداء عنيف تعرض له رجل مسن أثناء سيره فى الشارع على يد ثلاثة شبان هاربين، يُعتقد أنهم من أصول مغاربية. انزلقت الأمور نحو الفوضى بعد أن تسللت إلى المظاهرات عناصر من اليمين المتطرف الآخذ فى الصعود فى أرجاء أوروبا، والذى قد يعود للسلطة فى إسبانيا لأول مرة منذ انتهاء دكتاتورية الجنرال فرانكو قبل نحو نصف قرن.
الشرفة تمنحنا رؤية بانورامية على البحر، تشير إلى عدة أشياء حسب السياق، فهى تشمل المناظر الطبيعية البديعة، إضافة إلى حقائق تاريخية تختلط بواقعنا اليومى والسياسى. ننظر باتجاه المغرب، من أعلى الشرفة فى مدينة نيرخا التى اشتق اسمها من الكلمة المغاربية «ناريسكا» والتى تعنى «غنى بالمياه»، فنجد البحر يحيط بنا من كل جانب، يحمل فى طياته غرقى ومبحرين، ونحن فى عالم يرحل.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا