x قد يعجبك أيضا

«أتعس الطوائف».. نظرة محفوظية!

السبت 23 أغسطس 2025 - 7:10 م

 

(1)
«هم خلاصة الأمة المصرية، لأن الطبقة الوسطى من أيام محمد على، هى التى تقود البلد، وهى الإدارة، وهى الحكومة، وهى النهضة.. وهم أيضًا الذين يتعبون أكثر من غيرهم، وهم أشقى من غيرهم، لأن كل واحد منهم أيًا كانت درجته، ولقمة عيشه»، شاعر أنه «واجب يخلِف ويوصل اللى خلفهم دول» لأعلى الدرجات، ويديهم هدية للدولة؛ مهندسين وأطباء، وزراعيين، وكل شىء.. مش كده!
والمتاعب التى يقابلونها فى سبيل ذلك لا حصر لها، ولذلك تُعتبر طائفة من أتعس الطوائف!».
(من حوار متلفز قديم مع نجيب محفوظ، أجراه مفيد فوزى)


(2)
كانت الفقرة السابقة ترجمة مسطورة لكلامٍ قاله نجيب محفوظ فى واحدٍ من الحواريات المتلفزة التى أجريت معه بكثافة عقب حصوله على نوبل 1988 (أو ربما قبلها لغياب الإشارة التاريخية). كتبتُ كثيرًا عن حوارات محفوظ ولقاءاته الصحفية، ونوهت بأهميتها وقيمتها الكبرى، وذكرت أنها بمثابة متن شارح وكاشف لكثيرٍ من تصورات محفوظ ورؤاه التى جسدها فنيا وإبداعيا فى متنه المحفوظى الشاهق؛ 34 رواية و22 مجموعة قصصية، وكتاب مترجم عن الإنجليزية، وكتاب حوارات متخيل مع حكام مصر وزعمائها عبر العصور.
وفى كل هذه الحوارات أو اللقاءات (أو معظمها) يؤكد محفوظ أن الكاتب الحقيقى لا يمكن أن يكتب إلا عن تلك المجموعة من المجتمع التى ينتسب إليها؛ فانفعالاته انعكاس لانفعالاتهم، وتجاربه الحياتية (بما فيها الخاصة بل شديدة الخصوصية) صورة من تجاربهم، وهم منه وهو منهم، ولذلك يكتب عنهم.


وقد كان نجيب محفوظ بذاته، بتكوينه، وثقافته وأدواره العظيمة التى مارسها ككاتبٍ ينتمى لهذه الطبقة الوسطى.


تشكلت رؤيته للعالم وتصوراته عنها من خلالهم وبهم، وفى الوقت نفسه فارق وعيه الاجتماعى انتماءه الطبقى بما يمكنه من رؤيتها، نافذًا إلى صميم تكوينها التاريخى ونسيجها الاجتماعى، وراصدًا مشكلاتها وأزماتها وأعطابها ومجسدًا آمالها وأحلامها وطموحاتها. وفى الوقت ذاته كان أجدر الناس على تصوير آلامهم وشجونهم وإحباطاتهم، كما هو معلوم وماثل فى متنه المحفوظى الخالد.


(3)
كانت هذه مقدمة ضرورية فيما أتصور للدخول مباشرة إلى النص المحفوظى الذى صدرنا به المقال عن "أتعس الطوائف" وهو نص عبقرى، مدهش، دال، وصادق، ويوجز بكثير من الحكمة والنضج والعبقرية (التكرار مقصود) توصيفَ جوهر الطبقة الوسطى المصرية، منذ نشوئها فى القرن التاسع عشر وحتى اللحظة التى نطق فيها نجيب محفوظ بهذه العبارة الشارحة الكاشفة العميقة.


تأمل معى عزيزى القارئ هذه الكلمات: «خلاصة» الأمة المصرية، الإدارة، النهضة.. يتعبون، أشقى، متاعب، أتعس!


باختصار يمكن القول، على طريقة حل الألغاز فى المجلات المصورة، أنك إذا وصلت بين هذه الكلمات فى سياق العبارة المنطوقة والمكتوبة فستصل إلى توصيف دقيق ومعجز فى إيجازه لمعنى وماهية وتكوين الطبقة الوسطى المصرية، وفق أى معيار علمى أو اجتماعى تحتكم إليه!


سأضرب مثالًا واحدًا على ما أقصده:
فى كتابه الموسوعى عن «تاريخ الطبقة الوسطى» يصفها المؤرخ البريطانى لورنس جيمس بالبراغماتية والقدرة على المواءمة والتعايش، وأن هذه الطبقة مجتمعة تمثل مشروع وعبقرية «الأمة» التى تنتمى إليها. فأفرادها يدركون ما هو «الواجب» عليهم فعله، و«يسعون» جهدهم لتحقيقه. ومن ثم يتوقعون من الدولة حمايتهم، وصون ممتلكاتهم، وضمان حرياتهم فى الحراك لأعلى، حيثما يقودهم طموحهم وتمكنهم مؤهلاتهم دون عائق، ومن هنا يأتى اهتمامهم بتعليم الأبناء سعيًا لمستقبل أفضل مما حققه لهم آباؤهم.


هذه الأسطر التى أنقلها عن مقال للدكتور محمود محيى الدين، ويورد فيه هذا الوصف للمؤرخ البريطانى، وبالتأكيد لن يتبادر إلى الأذهان أن نجيب محفوظ الذى رحل عن عالمنا فى 2006؛ أى قبل قرابة عقدين من الزمان قد اطلع على مقال الدكتور محيى الدين أو على توصيف المؤرخ البريطانى لورانس جيمس!


(4)
هنا بالتحديد تكمن عظمة الكاتب والأديب و«العقل المثقف» القادر على استشفاف روح الجماعة التى ينتمى إليها، ويحيط علما ومعرفة بتكويناتها ونسجها وتفاصيلها دون أن يستعرض عضلاته العلمية أو يكتب المجلدات المفصلة خارج حدود الدائرة المعرفية التى اختارها بل يختار الأدب (أى الإبداع الحر الخلاق، والفن أحد أرقى وسائل التعبير التى تميز البشر منذ بدء الخليقة). ويجسد هذه الأفكار والتصورات والرؤى النافذة بقوة الخيال وطاقة المخيلة ليحيلها إلى نصوص أدبية «جميلة وممتعة» فى المقام الأول، وفيها وضمن هذه التشكيلات الجمالية والأنساق الثقافية، ما لا يقدر على صياغته ولا رصده ولا إدراكه أعتى المثقفين وأكبر المحللين والمستشارين ولا حتى مؤسسات بأكملها.


وهذه هى «سر العظمة المحفوظية»، وسر احتفائنا بمحفوظ رغم رحيله عنا منذ 19 عامًا، أدب محفوظ مثل صوت أم كلثوم، مثل لوحات محمود سعيد، وألحان سيد درويش، ومنحوتات محمود مختار، وأشعار فؤاد حداد، ورباعيات صلاح جاهين.. وغير ذلك كثير من إبداعات المصريين على مدى القرن ونصف القرن الماضى، فى لحظات التألق والازدهار والإبداع والتمثل الفنى والأدبى والجمالى الكامل لروح هذه الأمة التى ينتمون إليها، و«خلاصتها»، و«إدارتها»، و«نهضتها»، كما قال محفوظ.
(وللحديث بقية)

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة