الإصلاح الاقتصادي بين البيانات وأحوال الناس

الإثنين 18 أغسطس 2025 - 6:20 م

كلما تحدثت أو كتبت فى الشأن الاقتصادى العام، فإن عددًا من المتابعين للمحتوى لا تستوقفهم أية تفاصيل موضوعية باستثناء سؤال حائر يتركونه قلقًا مضطربًا فى التعليقات: كيف يعود هذا الكلام بالنفع على المواطن العادى؟.. وبعيدًا عن مدى صلاحية هذا السؤال للإقحام فى أى سياق، فإن مراعاة المواطن مستهلكًا أو مستثمرًا أو مستقبلًا للسياسات والقرارات الحكومية على اختلافها، هو أمر غاية فى الأهمية. المواطن هو أداة خطط التنمية وهو المستفيد الأول منها، فلا قيمة لجهود حكومية مضنية تعمل على تحسين الأرقام المعلنة ولا تحقق للمواطن تحسّنًا ملحوظًا فى أسباب معيشته. يتصل بهذا الأمر نبرة سخرية تزداد حدتها كثيرًا كلما صرّح أحد المسئولين بأن الأزمة الاقتصادية انتهت أو أوشكت على الانتهاء. آخر تلك التصريحات ما صدر عن وزير الاستثمار والتجارة استشهادًا بمحافظ البنك المركزى، ما مفاده أن البلد أصبحت «دولة تانية خالص» منذ قرارات مارس العام الماضى.


لقد شهدت مصر على مدى العقد الأخير برامج إصلاح شديدة الطموح، شملت تحريرا نسبيا فى سعر الصرف ومحاولة ترشيد الدعم وإصلاح المالية العامة وتطوير البنية التحتية.. ورغم أهمية تلك السياسات، يبقى السؤال: هل يشعر المواطن العادى بثمارها؟ أم أن الفجوة بين الخطاب الرسمى والتجربة اليومية لا تزال واسعة؟
لا يقتصر إذن نجاح أى برنامج إصلاح اقتصادى على حسن تصميمه أو دقة مؤشرات أدائه، بل يتوقف بصورة جوهرية على الطريقة التى يلمس بها المواطن أثر تلك الإصلاحات فى حياته اليومية. فالأرقام مهما بلغت قوتها لا تستطيع وحدها أن تخلق شعورًا بالتحسّن، ما لم تترجم إلى واقع معيش ينعكس فى جودة الخدمات وفرص العمل واستقرار الأسعار.


• • •
الخبرة الدولية تقدم شواهد ثرية فى هذا المجال، ولنبدأ بالبرازيل التى أطلق رئيسها «لولا دا سيلفا» برنامجه الشهير لمحاربة الفقر مطلع الألفية، إذ لم يكتفِ بتحقيق معدلات نمو جيدة، بل ربط الإنجاز الاقتصادى بتحسين مباشر فى معيشة الأسر الفقيرة عبر تحويلات نقدية مشروطة بالتعليم والصحة. كانت النتيجة تراجعا ملموسا فى معدلات الفقر، واستشعر المواطنون تغييرًا إيجابيًا فى مدارس أبنائهم ومراكز الرعاية الصحية التى يرتادونها يوميًا.
الأمر ذاته يتكرر فى تجربة كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية، حيث لم يكن النمو السريع وحده كافيًا، بل حرصت الدولة على أن يلمس المواطن ثمرة الإصلاح من خلال التوسّع فى تقديم خدمات التعليم العام، وتحويل ملايين المزارعين إلى أصحاب مصانع صغيرة ومتوسطة. فالسياسات هنا لم تكن مجرد أرقام فى سجلات وزارة المالية، بل قصص نجاح شخصية عاشها الناس، وانتقلت بين الأفواه لتوثيق وتقييم التجربة الإصلاحية.
أما فى بلادنا، فلا تزال الفجوة بين المؤشرات الرسمية ومشاعر الناس تضيق وتتسع وفقًا لعدد من العوامل أبرزها: تكاليف وعوائد الإصلاح، فلا شك أن كثيرًا من الإصلاحات تسدد تكاليفها من معاناة المواطنين بصورة آنية، لكن عائداتها قد تتأخّر لعدة سنوات أو عقود. تحرير أسعار الطاقة أو ضبط المالية العامة مثلًا، لا يمكن أن تعطى المواطن انطباعًا فوريًا بالتحسّن فى أحواله المادية، إذ هى بالضرورة تضيف إلى معاناته عبء ارتفاع تكاليف معيشته. كذلك يجب الالتفات إلى حقيقة أن أعباء وثمار الإصلاحات الاقتصادية لا تتوزع بالعدل بين الطبقات وفئات المجتمع، فقد يستفيد أصحاب الدخول الأعلى بصورة أسرع من أصحاب الدخول المحدودة، مما يعمق شعورًا بانعدام العدالة. وثالثها غياب قنوات فعالة لقياس الرأى العام وربطه بعملية صنع السياسات، وهو عنصر جوهرى فى كل التجارب الدولية والتاريخية الناجحة.


• • •
ولعل أبرز ما يميّز الإصلاح الاقتصادى الناجح هو قدرته على بناء «رواية وطنية» يتبناها المواطن البسيط، ويشعر أنه أحد أبطالها وأنه شريك أصيل فيها. فالإصلاح ليس مجرد قوانين وتشريعات تُسنّ فى البرلمان أو برامج تُنفذّها الحكومة، بل هو عقد اجتماعى جامع، يتحرّى توزيع الأعباء بشكل منصف، وكذا توزيع المكاسب والثمار بغير محاباة. هنا يأتى دور أدوات قياس الرأى العام فى تقييم أثر السياسات والتشريعات وإعادة توجيهها بشكل مناسب.
ففى دول شمال أوروبا مثلًا، لا تكفى البيانات الرسمية لتقييم أثر السياسة الاقتصادية، بل توجد مؤسسات مستقلة تقيس «مؤشر الثقة الاقتصادية» بانتظام، يتضمن أسئلة مباشرة للمواطن حول شعوره بالاستقرار الوظيفى، وتوقعاته للأسعار، وقدرته على الادخار أو الاستثمار.. هذه الأدوات تساعد الحكومات على فهم الفجوة بين المؤشرات الكلية (كالعجز والتضخم) وبين الانطباعات اليومية فى الأسواق.
أما فى بريطانيا، فقد جرى توظيف استطلاعات الرأى العام لتعديل السياسات وإعادة رسمها أثناء التطبيق فضلًا عن تقييمها بادئ الرأى. وحين طبّقت الحكومة البريطانية إصلاحات الرعاية الصحية فى تسعينيات القرن الماضى، كانت تُراجع شهريًا نتائج استطلاعات رضا المرضى عن الخدمات المقدمة، وتعدّل البرامج تبعًا لها. هكذا يشعر المواطن أنه مشارك فى صياغة برنامج الإصلاح لا مجرد متلقٍ سلبى له.
ولتضييق الفجوة بين الإصلاح الاقتصادى ومشاعر المواطنين فى مصر علينا اتباع ثلاثة مسارات متكاملة:
أولًا: تعزيز الأثر المباشر على حياة المواطن: عوضًا عن الاكتفاء بالحديث عن ارتفاع معدلات النمو أو انخفاض معدلات البطالة وعجز الموازنة، يجب ترجمة الإصلاحات إلى تحسين ملموس فى جودة المدارس الحكومية، وتوافر الدواء فى المستشفيات، وخفض زمن الانتظار للحصول على خدمة عامة.. تلك التفاصيل الصغيرة تصنع الفرق فى وجدان المواطن أكثر مما تصنعه المؤشرات المجردة.
ثانيًا: ترسيخ قنوات قياس الرأى العام ودمجها فى السياسات: ويمكن هنا الاستفادة من التجارب الدولية فى تطوير مؤشرات محلية للثقة الاقتصادية وقياس الرضا عن الخدمات. فى هذا السياق، يتيح إشراك الجامعات ومراكز البحوث وبنوك الأفكار المستقلة فى إجراء استطلاعات رأى دورية للحكومة نافذة موضوعية تطلّ بها على مشاعر المواطنين. كما أن إتاحة هذه النتائج للرأى العام تعزز الشفافية وتخلق شعورًا بالثقة.
ثالثًا: تحسين قنوات التواصل بين الحكومة والمجتمع: كثير من الإصلاحات قد تكون ضرورية لكنها تُقدَّم للناس بغير رواية مقنعة، فيُنظر إليها بوصفها أعباء إضافية تستتر خلف عبارات رنّانة شديدة التعقيد. بناء خطاب اقتصادى وطنى، يشرح بصدق التحديات والفوائد، ويعترف بالتضحيات المطلوبة، هو ما يجعل المواطن يتحمل التكلفة وهو واثق فى جدوى المسار رغم طوله ووعورة مسالكه.
ويمكن النظر إلى مبادرة «حياة كريمة» باعتبارها نموذجًا لمحاولة ربط الإصلاحات الاقتصادية بتحسين مباشر فى حياة المواطن، إذ تستهدف المبادرة أكثر من 4500 قرية يقطنها نحو 60% من سكان مصر، من خلال تحسين شبكات المياه والصرف الصحى، وتطوير المدارس والوحدات الصحية، وبناء مساكن لائقة للفئات الأكثر احتياجًا. هذا النوع من التدخل التنموى يخلق أثرًا ملموسًا يلمسه المواطن يوميًا فى بيئته المحلية، ويحوّل لغة الأرقام الجافة إلى قصص معيشة حقيقية، على غرار ما رأيناه فى التجارب البرازيلية والكورية.
• • •


أما عن دور التشريعات الاقتصادية، فهو لا يقل أهمية عن البرامج والسياسات التنفيذية. فتقنين الشفافية وتداول المعلومات، وتنظيم حقوق الملكية، وضبط المنافسة، وحماية المستهلك.. كلها وغيرها أدوات تشريعية تجعل المواطن مطمئنًا إلى أن السوق منصفة، وأن القواعد تنطبق على الجميع. هنا يبرز البعد النفسى للإصلاح، فالشعور بالعدالة الإجرائية والإنصاف فى توزيع الفرص قد يكون أحيانًا أهم من مجرد زيادة الدخل.
لقد أثبتت تجارب عديدة أن الإصلاح الاقتصادى ليس مجرد معادلات مالية، بل عملية اجتماعية ــ سياسية متكاملة. فى بولندا بعد سقوط الاشتراكية، مثلًا، لم تنجح خطة «العلاج بالصدمة» اقتصاديًا إلا بقدر ما واكبها من برامج اجتماعية لامتصاص أثر البطالة المؤقتة، ومن حملات تواصل مجتمعى أوضحت للشعب: لماذا يتعين عليهم التحمّل لسنوات قليلة مقابل مستقبل أفضل.
وإذ تواصل مصر مسيرة الإصلاح الشاقة، فإنها تلتمس وضع احتياجات المواطن ومشاعره فى صلب أولوياتها. فلا قيمة لتحقيق فائض فى الميزان التجارى أو زيادة الاحتياطيات الأجنبية إذا كان المواطن يعانى من صعوبة الحصول على الخدمات الأساسية، أو يعجز عن مواكبة غلاء المعيشة بدخل محدود. كما أن تعزيز الثقة بين الدولة والمواطن لا يقتصر على الجانب المعنوى فحسب، بل يمثل استثمارًا اقتصاديًا حقيقيًا؛ فهو يشجع الالتزام بسداد الضرائب، ويدفع نحو المشاركة الفاعلة فى الاقتصاد الرسمى، ويعزز الشمول المالى، ويحسّن بيئة الأعمال.
خلاصة القول إن الإصلاح الاقتصادى الناجح لا يُقاس بالبيانات المصمتة فقط، ولا يكتمل بسن القوانين وحدها، بل بقدرته على خلق تجربة يومية إيجابية للمواطنين، قابلة للقياس والمراقبة باستمرار، معززة برواية وطنية جامعة. عندها فقط يصبح المواطن شريكًا حقيقيًا فى الإصلاح، لا مجرد متفرّج على عرض من الفانتازيا السياسية.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة