الخلافات حول الجوهر وليس التفاصيل
الإثنين 18 أغسطس 2025 - 6:25 م
فى حديث صحفى لى أخيرًا على تلفزيون BBC استفسر المذيع عن المفاوضات الجارية حول غزة، وأسباب تعثرها مكررًا السؤال حول بعض التفاصيل، فكانت إجابتى صريحة ومباشرة بأن الخلاف ليس حول التفاصيل وإنما حول جوهر النزاع.
وتابعت بعد ذلك بأيام الأخبار المتناقلة إعلاميًا أن إسرائيل والولايات المتحدة تعيدان النظر فى فكرة الحلول الجزئية والمرحلية لصالح حل شامل وكامل. ولأول وهلة وجدت فى ذلك مؤشرًا إيجابيًا، وقد تزامن مع إعلان عدد من الدول الغربية عزمها الاعتراف بدولة فلسطين فى الخريف القادم، فضلًا عن انتهاء مؤتمر الأمم المتحدة حول حل الدولتين برعاية السعودية وفرنسا.
إلا أن تجربتى التفاوضية الطويلة جعلتنى لا أتسرع وأتابع الأخبار بدقة، فتبين أن المقصود بكلمة شاملة هو صفقة لإعادة كل المختطفين مقابل بعض المحتجزين الفلسطينيين وإنهاء الحرب فى غزة، وأن إسرائيل أسرعت لتؤكد أن قيادات حماس مستهدفون فى أى مكان حتى خارج القطاع، وتجنبت الالتزام بأن وقف الحرب يعنى انسحابها من القطاع، أو حتى تراجعها عن مطلب رئيسى سابق، وهو استمرار اليد العليا الأمنية الإسرائيلية فى غزة. ولم يتم التطرق مطلقًا إلى حل النزاع الفلسطينى الإسرائيلى وإنهاء الاحتلال فى الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة، بل على النقيض الكامل من ذلك أصدر الكنيست قانونًا بضم الضفة الغربية لنهر الأردن، وأعلن رئيس الوزراء عزمه احتلال غزة بالكامل.
ببساطة وصراحة كاملة، المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية فى غزة وكذلك فى الضفة، فى الحاضر والماضى، لم تتعثر نتيجة الاختلافات حول التفاصيل، حتى عندما كان النقاش بين الوسط السياسى فى الساحتين والمؤيدين للمسار التفاوضى السلمى، وإنما المشكلة تكمن فى اختلافات حول جوهر النزاع وهو إنهاء الاحتلال، فضلًا عن غياب الثقل السياسى والمصداقية لدى الوسط السياسى، والضرورى لكى يرجّح مواقفه على التوجهات السياسية لليمين، الذى يتبنى مواقف أيديولوجية لا تتسق مع الحل السلمى للنزاع على أساس إقامة دولتين مستقلتين. وأكبر دليل على ذلك أن إسرائيل تحكمها أكثر الحكومات تطرفًا منذ إنشائها، وأن حماس وتيارات أخرى هى المهيمنة فلسطينيًا على ملف مفاوضات غزة، علمًا أننى لا أساوى أبدًا بين مسئولية دولة الاحتلال وشعب تحت الاحتلال.
العقبة الرئيسية وراء تعثر مسار حل النزاع هى أن الغالبية العظمى فى إسرائيل لا تؤيد إقامة دولة فلسطينية، واتجهت الدفّة السياسية يمينًا بتبنى ممارسات للتهجير القسرى والإبادة الجماعية والمجاعات، وترددت وفشلت التيارات السياسية الأكثر اعتدالًا فى تحريك الساحة الإسرائيلية نحو حل الدولتين، بل لا يوجد تصريح واحد لأى رئيس وزراء إسرائيلى منذ إنشاء الدولة يعكس تأييده لإقامة دولة فلسطين. أى أن الموقف الإسرائيلى فى أحسن أحواله لم يكن كافيًا أصلًا بالنسبة لجوهر القضية، ولم ينجح الوسط السياسى فى جذب الساحة الإسرائيلية نحو الحل، كما أن ممارسات التيارات المتطرفة تستهدف إقامة إسرائيل الكبرى.
إسرائيل لا تؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة وتعمل الآن بكل شغف وعنف للقضاء على القضية الفلسطينية شعبًا وأرضًا، هذه هى المعضلة الأولى.
فى المقابل، المطلب الإسرائيلى الرئيسى الجامع لليسار واليمين هو ضرورة الاتفاق على ترتيبات تمنع تهديد إسرائيل من الأراضى المنسحب منها فى الضفة والقطاع، مع تواجد قدرات أمنية إسرائيلية على نهر الأردن لتجنب تهديدات من الدول العربية المجاورة، وأضيف إليه الآن التمسك بتواجد عسكرى داخل غزة، رغم أن السلطة الفلسطينية أكدت أن اهتماماتها دفاعية، ولم ترفض فكرة الاتفاق على الترتيبات الأمنية لطمأنة الأطراف من العمليات المفاجئة، وإنما لم تلتزم تيارات فلسطينية مقاومة على يمين الخريطة بترتيبات جوهرية أو نزع السلاح فى غياب الاتفاق على حل الدولتين.
ثم شهدنا أحداث ٧ أكتوبر، وما تلاها من قتلى وشهداء أبرياء من أهل القطاع، فازدادت المسألة توترًا وتعقيدًا على الجانبين.
وهنا أود إيجاز المعضلة أمامنا فى مجموعة خلاصات: لن يتحقق للإسرائيليين الأمن والأمان إلا بإقامة دولة فلسطينية وإنهاء النزاع. ولن يتحقق للفلسطينيين حلم الدولة الوطنية المستقلة على أساس حدود ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية مع تبادل محدود لبعض الأراضى إلا إذا شعرت إسرائيل بالأمن والأمان.لا يستطيع الوسط السياسى الإسرائيلى أو الفلسطينى ترجيح الدفّة وخلق الزخم السياسى لاتخاذ قرارات تاريخيّة تحسم النزاع، ويتطلب الأمر حراكًا سياسيًا دوليًا واسعًا للضغط على وتنشيط الوسط الإسرائيلى والفلسطينى. مسألة استقرار وإعادة إعمار غزة ستحتاج موارد ضخمة للغاية وعلى مدى سنين طويلة، فضلًا عن أن هناك حاجة لخلق جهة إدارية وآليات أمنية إقليمية ودولية بموافقة فلسطينية لإدارة غزة وتأمينها مرحليًا، كما طُرح فى المبادرة المصرية العربية، وهى أمور لن تتحقق إلا فى إطار الحل الكامل والدائم للنزاع، لأن الدول ستتردد فى الإسهام ماديًا وفى الترتيبات الإدارية والأمنية للقطاع إلا فى سياق إنهاء النزاع.
على المجتمع الدولى، وخاصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولى، القيام بدور أكثر فاعلية. فبالنسبة للجمعية العامة، يجب إصدار قرارات متابعة لمؤتمر «حل الدولتين» لتدخل قراراته حيز النفاذ فى فترة زمنية محددة، فضلًا عن اتخاذ إجراءات تجاه إسرائيل فى ظل تعنّتها، وخاصة ما يتعلق بضم الضفة الغربية والتوسع فى غزة بعد انتهاء المؤتمر بأيام.
كما يجب أن يصدر قرار عن مجلس الأمن تتبناه جميع الدول الأعضاء بالمجلس لإعطائه الثقل السياسى المطلوب، ويتجنب الحساسيات الغربية الروسية، على أن يشمل القرار:
أ) خطة تفصيلية لإعادة إعمار غزة، وإدارة القطاع وتأمينه.
ب) خطة شاملة ومتكاملة لحل النزاع على أساس الشرعية الدولية لتحقيق المطالب الوطنية الفلسطينية بإقامة دولة ذات سيادة على أساس حدود ١٩٦٧، وعاصمتها القدس الشرقية، ووضع ترتيبات خاصة لإدارة وتأمين أماكن العبادة وتبعاتها، وطرح خاص بعودة أو تعويض اللاجئين الفلسطينيين.
ج) قواعد وترتيبات للاستجابة للاحتياجات الإسرائيلية والفلسطينية الأمنية لتجنب المخاطر الأمنية المفاجئة.
د) إنشاء آلية دولية للمراقبة والمتابعة للفترة التنفيذية الأولى لهذه العناصر المختلفة، والتى قد تمتد إلى حين بناء الثقة بين الأطراف الإسرائيلية والفلسطينية.
الحل فى تجنب السقوط فى فخ التفاصيل والمطالب التى لا تنتهى، والحسم فى التركيز على جوهر النزاع، وتمتع جميع الأطراف بحقوق متساوية.
نقلا عن إندبندنت عربية
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا