رغم اقتصارها على الرئيسين الأمريكى، ترامب، ونظيره الروسى، بوتين؛ يمكن الزعم بأن الأوروبيين كانوا هم الطرف الغائب الحاضر، إن لم يكونوا الموجِّه لمآلات قمة ألاسكا؛ حيث أسهموا فى هندسة مجرياتها وصوغ مخرجاتها. فخلال قمتهم الافتراضية مع ترامب، قبيل ساعات من لقائه بوتين، اقتنص الأوروبيون ثلاثة تعهدات أمريكية مهمة. أولها: مطالبة بوتين بوقف إطلاق النار، بما من شأنه تجميد خطوط القتال وإيقاف تقدّم القوات الروسية التى تحقق اختراقات لافتة فى مواضع مهمة على خطوط المواجهة. وثانيها: الدعوة إلى قمة ثلاثية يحضرها زيلينسكى، كيما يتحقق المطلب الأوروبى باستئثار الأوكرانيين بحق تقرير مصيرهم. وثالثها: تأكيد ترامب، للمرة الأولى، اعتزامه الانضمام إلى الضمانات الأوروبية التى ستكفل حماية أوكرانيا من أى هجمات روسية مستقبلية. ورغم عدم الإفصاح عن تفاصيلها، تشكل الضمانات الأمنية غاية استراتيجية أوروبية، إذ تلتزم واشنطن بموجبها الدفاع عن أوروبا بأسرها، وليس عن أوكرانيا وحدها.
منذ قرون خلت، تتلبّس الأوروبيين حالة أقرب إلى «الروس فوبيا» إزاء روسيا، وهى حالة تمزج ما بين الخوف منها والاستعلاء الحضارى والاستراتيجى الغربى عليها. ففى مطلع القرن الثامن عشر، استخدمت أوساط أوروبية عبارة «الروس قادمون!» للإعراب عن رُهاب الأوروبيين مما أسماه كارل ماركس حينئذ «الهمج القادمون من الشرق». وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت استراتيجية «الستار الحديدى» حيال الاتحاد السوفيتى ابتكارًا أوروبيًا صرفًا؛ حيث أصَّل لها فكريًا عام 1872 الكاتب الألمانى فرانز شوسيلكا، قبل أن يتبناها تشرشل فى خطابه الشهير عام 1946.
أما اليوم، فخلافًا لواشنطن التى تعتبر الصين التهديد الأخطر لها، تتذمّر أوروبا جراء أطماع روسيا فيها. فيما اعتبر رئيس الوزراء البريطانى، كير ستارمر، أن أوكرانيا تقاتل من أجل نفس القيم التى قاتل الحلفاء من أجلها إبان الحرب العالمية الثانية. غير أن وزير الخارجية الروسى، سيرغى لافروف، حذّر من التحريض الأوروبى على صراع مع موسكو قد لا يتمظهر فى حرب هجينة. كما اعتبر التحذيرات بشأن التهديد الروسى لأوروبا «هراءً مطلقًا» إذ يجافى المنطق وتعوزه السوابق التاريخية.
يتأسس تنامى الدور الأوروبى فى الأزمة الأوكرانية هذه الأيام، على تفاقم الانخراط العسكرى والدعم السياسى من لدن الأوروبيين لكييف، مقابل انحسار الحضور الأمريكى الذى كان طاغيًا فى ملمات أوروبية شتى، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى مستهل العام الجارى. فوفقًا لحسابات المعهد الألمانى للاقتصاد العالمى، قدمت أوروبا مساعدات عسكرية لأوكرانيا منذ العام 2022 وحتى يونيو 2025، بقيمة 35.1 مليار يورو على الأقل، عبر عقود شراء من شركات الصناعات الدفاعية الأمريكية والأوروبية، بما يفوق الدعم الأمريكى لكييف بـ 4.4 مليار يورو. ويأبى الأوروبيون إلا دعم موقف أوكرانيا التفاوضى، لتعويض وهنها العسكرى والميدانى فى مواجهة روسيا.
فبرغم العمليات التى تسنّى لكييف من خلالها استهداف مواقع حيوية روسية، إلا أن أوكرانيا تخسر ببطء مع تفاقم معضلة نقص الأفراد والذخيرة على الخطوط الأمامية للجبهة. ما يعنى أن انهيار المفاوضات واستمرار الحرب سيصب، على الأرجح، فى مصلحة روسيا. فخلافًا لأوكرانيا، بمقدور روسيا مواصلة الحرب وتحقيق مكاسب ميدانية، حتى ولو كانت مكلفة، إذ تتفنن فى التحايل على العقوبات الغربية وتقليص تداعياتها على الاقتصاد والمجهود الحربى لموسكو.
فى فبراير الماضى، أنشأ الأوروبيون «تحالف الراغبين» الذى يضم ثلاثين دولة بقيادة فرنسا وبريطانيا لدعم أوكرانيا، مع تفاقم المخاوف من تقلص أو توقف المساعدات الأمريكية لها، خصوصًا أن ترامب يعارض سياسة «الدعم غير المحدود» لكييف، التى اعتمدها سلفه بايدن منذ بدء الهجوم الروسى على أوكرانيا عام 2022. وأعلن ماكرون اعتزام التحالف إرسال «قوات الردع» إلى أوكرانيا، لضمان تنفيذ وقف إطلاق النار مستقبلًا وردع أى اعتداء روسى عليها، مع توفير الضمانات الأمنية التى تشترطها كييف للقبول بأى اتفاق لإنهاء الحرب مع روسيا.
أثناء التحضير لقمة ألاسكا، سعى الأوروبيون لمنع بوتين من إقناع ترامب باتفاق سلام يشجع موسكو على مواصلة تغلغلها فى القارة العجوز. فقد حرص زيلينسكى والقادة الأوروبيون على عدم تحول القمة إلى ما يشبه «اتفاق ميونيخ» عام 1938 مع هتلر، أو «مؤتمر يالطا» مع ستالين عام 1945. فخلال الأول، وافقت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا على إشباع الأطماع التوسعية النازية فى أوروبا بعد تذرع هتلر بحماية الألمان فى المناطق الحدودية مع تشيكوسلوفاكيا. وقد سُمح له بضم منطقة سوديتنلاند التشيكية التى كان يقطنها 2,800,000 من ذوى الأصول الألمانية، وتضم المراكز الصناعية والاتصالات والمواقع العسكرية والدفاعات الطبيعية الحيوية. لكن هتلر نقض الاتفاق باجتياحه تشيكوسلوفاكيا، ثم احتلاله بولندا فى العام التالى مباشرة، لتندلع على إثر ذلك الحرب العالمية الثانية عام 1939، ويتحول «اتفاق ميونيخ» من محاولة يائسة لاسترضاء هتلر ومنعه من التوسع وإشعال حرب عالمية جديدة إلى تصريح بالتغلغل فى أوروبا وإدخال العالم فى أتون مأساة كونية مروعة، ما دفع البعض إلى تسميتها «بخيانة ميونيخ».
أما الثانى، ففى سياق مساعى الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتى لإعادة ترتيب ألمانيا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وتقاسم مناطق النفوذ بينهم فى فبراير 1945؛ قدم روزفلت ترضيات استراتيجية لستالين، مقابل مشاركة الجيش الأحمر فى الحرب ضد اليابان. الأمر الذى أدى إلى اختلال موازين القوى فى أوروبا لاحقًا لصالح موسكو، بعد انهيار القوة الألمانية؛ ما غذّى طموحات ستالين للهيمنة على وسط وشرق أوروبا. لذا، تخشى أوروبا أن يفضى سعى ترامب لاسترضاء بوتين اليوم بإقرار احتلاله شرق أوكرانيا، إلى خلل جديد فى موازين القوى بأوروبا، يغذى تطلعات بوتين التوسعية فى ربوعها.
يستنكر الأوروبيون سعى ترامب لتقديم نفسه «صانع سلام»، عبر تسوية للأزمة الأوكرانية تغفل المصالح الأوكرانية والأوروبية. حيث يأمل «صانع الصفقات» فى إنهاء حرب أوكرانيا بصورة تعزز دوره «كصانع سلام عالمى»، بما يقربه من انتزاع جائزة نوبل للسلام. لاسيما بعدما ادعى النجاح فى إنهاء ست حروب خلال الأشهر الستة المنقضية. كما ينشد ترميم شعبيته المتراجعة مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفى للكونجرس. ولعله يرنو إلى توفير أجواء مواتية لاستئناف محادثات ضبط التسلح الاستراتيجى بين واشنطن وموسكو، خاصة مع اقتراب انتهاء معاهدة «نيو ستارت» فى الخامس من فبراير المقبل، وهى آخر اتفاقية لا تزال قائمة بين البلدين للحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية.
استبق الأوروبيون قمة ألاسكا بعقد قمة افتراضية ضمت ترامب، زيلينسكى، وقادة 26 دولة أوروبية، قيادة الناتو، رئيسة المفوضية الأوروبية، ورئيس المجلس الأوروبى، بهدف توحيد المواقف لجهة تبادل الأراضى والضمانات الأمنية وتكثيف الضغوط على موسكو. وتضمن بيان القمة رفض تغيير الحدود الدولية بالقوة، وتأكيد احترام أى سلام عادل ودائم للقانون الدولى ومبادئ الاستقلال وسيادة وسلامة الأراضى، وأن تكون المفاوضات بمشاركة أوكرانيا وأوروبا وبعد وقف إطلاق النار. وألا يتم تبادل الأراضى إلا رفقة ضمانات أمنية حازمة.
كما جدد تأكيد الأوروبيين على أن يشمل أى اتفاق بين ترامب وبوتين أوكرانيا والاتحاد الأوروبى، كون أمن الأولى لا ينفصل عن أمن الأخيرة، إذ تشكل خط الدفاع الأول عنه ضد المطامع الروسية. وبمجرد انقضاء قمة ألاسكا، جدد الأوروبيون تعهداتهم السابقة بمواصلة دعم أوكرانيا، ومواصلة الضغط على روسيا والعمل مع ترامب وزيلينسكى لعقد قمة ثلاثية أمريكية ــ روسية ــ أوكرانية، لترسيخ سلام دائم يحترم حقوق أوكرانيا فى تقرير مصيرها. كما رحبوا بإبداء ترامب استعداده لتقديم ضمانات أمنية راسخة لأوكرانيا، بما يخولها حماية سيادتها وسلامة أراضيها.
قبيل سويعات من قمة ألاسكا، لاحَت أصداء الضغوط الأوروبية. فلقد قلّص ترامب سقف التوقعات إزاء القمة، واصفًا إياها بأنها «اجتماع تمهيدى، استكشافى، استشرافى». وبعدما أكد عدم إمكانية إبرام اتفاق دون الرجوع إلى زيلينسكى والأوروبيين، لم يستبعد ترامب احتمال فشل القمة.
لذا، يتوقع كاتب المقال أن يوظف ترامب تعاظم الدور الأوروبى الداعم لأوكرانيا فى الأزمة لإجبار بوتين على تقديم تنازلات، بغية إدراك تسوية مقبولة. حيث أعلنت مصادر غربية مسئولة استعداد بوتين للاكتفاء بضم أقاليم دونيتسك ولوغانسك والقرم، مع التخلى عن مطلبه السابق بضم أقاليم الدونباس الأربع التى احتلها، مقابل وقف الدعم العسكرى والاستخباراتى الغربى لأوكرانيا، وحظر انضمامها إلى الحلف الأطلسى.
بحنكته وحصافته كرجل استخبارات محترف، أدرك بوتين تعاظم التأثير الأوروبى فى قمة ألاسكا ومسارات الأزمة الأوكرانية فى أعقابها، من خلال القمم والمباحثات التشاورية التى تجمع ترامب بزيلينسكى وقادة أوروبا حاليًا. وبمجرد انقضاء قمة ألاسكا، حضّ الرئيس الروسى كييف والأوروبيين على عدم إعاقة عملية السلام فى أوكرانيا أو نسف التقدم الذى أحرزته القمة بهذا الخصوص، حيث أشاد بتفاهم تم التوصل إليه مع نظيره الأمريكى لإرساء تسوية شاملة وطويلة الأمد للأزمة الأوكرانية، اجتثاث البواعث المؤججة للصراع، مراعاة جميع مخاوف روسيا الأمنية، ترسيخ توازن قوى عادل فى أوروبا، مع ضمان أمن أوكرانيا. ورغم ذلك، قد لا يتورع بوتين عن الاستثمار فى مخاوف الأوروبيين من إمكانية جنوح ترامب للتخلى عن كييف، وتحميل الأوروبيين مسئولية نصرتها، وهو عبء استراتيجى واقتصادى لا تطيقه أوروبا طويلًا.