المثقف وحيدًا

الإثنين 18 أغسطس 2025 - 6:35 م

نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتبة باسمة يونس، تناولت فيه أزمة الثقافة المعاصرة، حيث فى زمنٍ تتسارع فيه الإيقاعات وتُقاس فيه القيم بعدد المشاهدات لا بعمق المعانى، تبدو الثقافة وكأنها تعيش مأزقًا صعبًا بين جوهرها الأصيل وشكلها السطحى الجديد. فقد هيمنت الصورة على الكلمة، وحلَّ الضجيج محلّ التأمل، وأصبح الصوت المرتفع معيارًا للحقيقة، بينما انزوت الحجة الرصينة خلف مشاهد الصدمة والإثارة. تناولت فيه مظاهر هذا التحوّل حين تراجعت المعرفة لتُختزل فى ومضة عابرة أو مقطع قصير، وتحول المثقف إلى غريبٍ يعيش عزلة فى فضاءٍ لا يبحث سوى عن إجابات سريعة، غير أن الأمل يبقى فى قارئ صبور يرى فى الكتاب صديقًا وفى الحوار قيمة لا يطويها ضجيج اللحظة. هكذا تظل الثقافة، رغم كل الانكسارات، بذرة قادرة على الإنبات كلما وُجد من يصغى لصوتها العميق.. نعرض من المقال ما يلى:
لعل أكثر ما يثير القلق فى ثقافة هذا الزمن هو هيمنة الصورة على الكلمة وسطوة الضجيج على التأمل، فقد أصبح الصوت المرتفع معيارًا للحقيقة والمشهد الصادم أقوى من الحجّة وضاعت المسافة بين الرأى والمعرفة وبين التعبير والتهريج.
ووسط هذا كله يجد المثقف نفسه اليوم وحيدًا، يتحدث بلغة لا يريد أحد أن يسمعها، ويحمل أسئلته وسط جمهور لا يريد سوى الإجابات السريعة وإن كانت خاطئة لأن القيم تقاس حاليًا بالسرعة وتختزل المعانى فى رموز وإشارات، بحيث تبدو الثقافة وكأنها تعيش مفارقة مريرة.


وبينما تضجّ الشاشات بالمحتوى وتفيض المنصات بالمعلومات، يتراجع العمق شيئًا فشيئًا لصالح السطح، فلم تُعد الثقافة فعلًا تأمليًا هادئًا، بل أصبحت صدىً متكررًا فى فضاء لا يتوقف عن الارتجاج ووسط هذا التدفق، أصبح الطفل يحاكى ما يراه فى لعبة إلكترونية، والشاب يتحدث بلسان لا يمتُّ إلى تاريخه بصلة والعائلة تتفكك أمام شاشات متعددة، كلٌّ فى عزلته رغم انتمائهم لبعضهم البعض.


فى السابق، كانت الثقافة تستغرق وقتًا لتنمو وتُبنى فى الصمت وتُصقل بالحوار والنقاش، أما اليوم، فقد أصبحت معلّبة، جاهزة للاستهلاك، تظهر فى هيئة معلومة سريعة، أو اقتباس مفرغ من سياقه، أو فيديو مرئى قصير يحلُّ محلَّ كتاب كامل وراج سوق الملخصات بسبب من يرونه تعويضًا مشبعًا وبديلاً يمكن الاعتماد عليه.


لم يعد القارئ يبحث عن الفكرة والمضمون، بل عن الجملة اللامعة الجذابة ولم يعد المتابع ينتظر المعرفة المشبعة، بل الترفيه المؤقت. فالمعرفة، كما تبدو فى زمننا، لم تعد تُقاس بما تُحدثه من أثر، بل بعدد الزيارات والمشاهدات التى تحصدها.
المثقف فى هذا الزمن، هو الغريب الذى لم يتغير فى زمان تغيّر كل شىء فيه. يقف متأملاً، يكتب لأنه لا يملك سلاحًا غير الكلمة، ويؤمن بأن الثقافة ليست صدى اللحظة، بل بذرة «خيزران» تُغرس فى الأرض ولا تُثمر فورًا حتى تصنع لنفسها شبكة معقدة من الجذور، إنه يعرف أن رسالته لم تعد موضع ترحيب فى فضاء تسكنه الصور وتُطارد فيه الكلمات.


ورغم كل هذا الانحدار الظاهرى، إلا أن الأمل لا يغيب، فهناك من يقرأ بهدوء ومن يرى فى الكتاب صديقًا لا يُستبدل وفى النقاش متعة لا تضاهيها ضوضاء الشاشة، هذا النبض الخفى هو ما يبقى الثقافة حيّة.
ثقافة هذا الزمن ليست نكسة نهائية، بل هى مرحلة يتصارع فيها الشكل مع الجوهر والضوء الزائف مع النور الحقيقى، هى دعوة لنا لنسأل: ماذا نريد من الثقافة؟ وهل نكتفى بما يُعرض علينا، أم نعيد اكتشاف ما يستحق أن نقرأه، أن نفكر فيه وأن نمنحه صوتًا فى زمن خفتت فيه الأصوات الحقيقية؟

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة