احذر من المثالية المتزايدة
الأربعاء 16 يوليه 2025 - 8:55 م
المثالية المتزايدة هى التمسك المفرط بالمُثل العليا، والالتزام بأعلى المبادئ والقيم، ورفض التنازل عن القيم الأخلاقية تحت أى ظرف من الظروف، إضافة إلى عدم تقبل الحلول الوسطية. تتعارض المثالية المتزايدة مع الواقعية الأخلاقية التى تمارس التوازن بين المبادئ والنتائج، وقد تقبل الكذب لتحقيق مصلحة أكبر، وتعتبر بعض التنازلات مقبولة عند الضرورة.
السعى المتزايد نحو الكمال الأخلاقى هو فى كثير من الأحيان نتيجة لتربية غير متوازنة، وتنشئة تقوم على التوقعات العالية، وغياب ثقافة الخطأ واعتباره معادلاً للفشل وارتباط قيمة الفرد الذاتية بالنجاح الكامل ورضا الآخرين. إن الأشخاص الذين يسعون إلى المثالية المتزايدة يضعون توقعات صارمة لأنفسهم وللآخرين، ولا يتسامحون مع الاختلافات، مما يؤدى إلى الإحباط أو العزلة. إذن الالتزام بالمثالية المتزايدة يؤدى إلى مشاكل كبيرة تؤثر على جودة الإنتاج الشخصى، والصحة النفسية، فضلاً عن تجنب التحديات، والفشل فى التكيف مع الواقع، والتعصب الأخلاقى الذى يؤثر سلبًا على العلاقات بسبب التوقعات المفرطة من الآخرين.
• • •
هناك جذور فلسفية للمثالية المتزايدة، ويمكنك أن تجدها فى فلسفة أفلاطون، الذى دعا إلى عالم مثالى من القيم الخالدة، وفى فلسفة إيمانويل كانط، الذى أكد على الواجب الأخلاقى المطلق، ورفض استخدام الإنسان كوسيلة. وقد يكون تزايد التدين دافعًا -أيضًا- نحو المثالية المتزايدة مع الفهم الحرفى الصارم للنصوص، والتركيز على الكمال الأخلاقى دون مراعاة للضعف البشري، وتصوير الخطأ كخطيئة لا تُغتفر.
بينما تعد المثالية أمرًا محفزًا، إلا أن الزيادة فيها تصبح عائقًا، والاعتدال هو المفتاح لتحقيق التوازن بين الطموح والواقعية، وفى القرن السادس عشر تناول الكاتب الإسبانى ميجيل دى سرفانتس سافيدرا الصراع الإنسانى بين المثالية والواقعية فى روايته «دون كيشوت»؛ حيث قدم الصراع الأبدى بين المثالية المُطلقة والواقعية المُرهقة. فقد كان بطل الرواية ألونسو كيخانو شغوفًا بقراءة قصص الفرسان الشجعان الذين يخوضون مغامرات بطولية لإنقاذ المظلومين وتحقيق العدالة. آمن ألونسو بأن هذه القصص حقيقية، وأنه قادر على أن يصبح فارسًا مثل أبطالها، فقرر أن يغير اسمه إلى «دون كيشوت» وانطلق فى رحلة لاستعادة مجد الفروسية المفقودة. ولكنه فشل فى تحقيق هذا المجد فى سلسلة من المواقف المضحكة والمأساوية، وفى النهاية، يعود دون كيشوت إلى قريته منهكًا ومريضًا ويعترف بأن كل مغامراته كانت مجرد وهم.
تكشف رواية «دون كيشوت» عن الصراع بين الخيال والواقع، ومحاولة الإنسان إيجاد معنى فى عالمٍ يبدو فارغًا، كما تشكك فى مفهوم الحقيقة وفكرة الحقيقة الواحدة، وتوضح أن الواقع ليس سوى منظور ذاتى. و«دون كيشوت» هو تجسيد لمثاليةٍ حالمةٍ منفصلةٍ عن الواقع، وحين تنفصل المثالية عن الواقع تتحول إلى وهم خطير وتؤدى إلى الفشل. ويجب الإشارة إلى أن رواية «دون كيشوت» ليست سخرية من المثالية، بل تطرح سؤالًا وجوديًا: هل يمكن للإنسان أن يعيش بدون مُثُل عليا؟ وتنتقد العالم الواقعى الذى لا يرحم الحالمين، وتُظهر التناقض بين النوايا النبيلة والواقع القاسى، وتجعلنا نتساءل: هل المثالية فضيلة، أم عبء، أم مأساة نبيلة؟
تناولت روايات عالمية أخرى المثالية المتزايدة مثل «الإخوة كارامازوف» لفيودور دوستويفسكى، التى تقدم صراعا بين الإيمان والشك، والفضيلة والواقع، وتقدم مثالية أخلاقية ودينية. وفى رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكى، يبرر البطل القتل كمبدأ فلسفى، ثم ينهار تحت وطأة ضميره، وتعبر الرواية عن مثالية عقلية مبررة. كذلك قدم ألبير كامو فى روايه «الغريب» مثالية وجودية سلبية، فالبطل لا يتفاعل مع القيم الاجتماعية، مما يفضح عبثية العالم. وتقدم روايه «التحول» (The Metamorphosis) لفرانز كافكا مثالية اجتماعية مرفوضة، فالبطل يتحول إلى حشرة، وينبذه المجتمع رغم محاولاته للتكيف.
تناول الأدب العربى -أيضا- المثالية المتزايدة، مثل رواية «العبرات» لمصطفى لطفى المنفلوطى، التى تقدم مثالية عاطفية وتمجد الفضيلة والتضحية فى إطار أخلاقى رومانسى، وتقدم رواية «فوق رأسى سحابة» لدعاء إبراهيم، مثالية أمومية مكسورة ونقد لصورة الأم المثالية من خلال تجربة قاسية.
فى حين أن المثالية فى الأدب الغربى تستخدم غالبا كأداة للسخرية أو التفكيك كما فى «دون كيشوت» و«التحول»، فإن المثالية فى الأدب العربى تميل إلى أن تكون أخلاقية أو عاطفية، وكلاهما يعكس أزمة الإنسان الحديث بين التمسك بالمثل العليا والانهيار فى مواجهة الواقع.
• • •
تتطلب معالجة المثالية المتزايدة تفكيك جذورها، وليس كسر القيم، ووضع أهداف واقعية قابلة للتحقيق، وقبول الإنجاز التدريجى، والانفتاح على النقد البناء، واستخدام العلاج السلوكى المعرفى (Cognitive Behavioural Therapy) لتعديل الأفكار المثالية القهرية؛ كذلك قراءة الروايات التى تكشف عن أزمة المثالية المتزايدة، وتمنح القارئ وعيًا نقديًا لها، واستبدال التفكير الثنائى (مثالى/ فاشل) بتفكير مرن وأن الخطأ ليس فشلًا، بل هو خطوة نحو النضج مع قبول النقص كجزء من الطبيعة الإنسانية. كذلك إن كتابة اليوميات أو القصص الشخصية تساعد على كسر التوقعات الذاتية.
ينبغى أيضا إعادة صياغة الخطابات التى تقدمها الأنظمة التربوية والدينية لتكون أكثر توازنًا وإنسانية. ويجب أن يتحول التعليم من الكمال إلى التعلّم، وإعادة تعريف النجاح، والتركيز على الجهد والتطور بدلًا من النتائج النهائية، وجعل الأخطاء جزءا من التعلم، مع عرض سير ذاتية لأشخاص ناجحين مرّوا بالفشل، واستخدام الأدب لتوضيح مخاطر المثالية المفرطة. وفى الخطاب الدينى يجب تقديم القدوة باعتباره إنسانًا، وليس كائنًا معصومًا من الخطأ، وتوضيح الجانب الإنسانى للأنبياء وتجنب تصويرهم كـ«كائنات خارقة» لا يمكن تقليدها، مع الاعتراف بضعف الإنسان، واستخدام لغة تتبنى التدرج، لا لغة التوبيخ.
لا شك أن تحرر التعليم والخطاب الدينى من المثالية المتزايدة، سيُمكّنهما من بناء إنسان واقعى يسعى إلى الخير، وليس أسيرًا لفكرة الكمال، مؤمنا بالقيم، دون أن يسحق تحت وطأة الكمال.
فى الختام، المثالية هى السعى نحو القيم العليا والفضائل النبيلة. إلا أنها عندما تتجاوز حدود التوازن، تُصبح عبئًا نفسيًا واجتماعيًا وفكريًا. هذا المقال هو محاولة لطرح جذور المثالية المتزايدة، وسبل معالجتها على المستوى الشخصي، ومن خلال التعليم، والخطاب الدينى.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا