لطفى لبيب.. البطل الذى صنع من الظل نورًا

الأربعاء 16 يوليه 2025 - 8:50 م

وسط تغير موجات الفن، يظل الفنان لطفى لبيب حالةً نادرة فى الساحة الفنية، فنان لم يبحث عن الضوء، بل ترك للضوء أن يبحث عنه، لم يسع وراء البطولة المطلقة، لكنه صنع مجدًا من «المساحات الصغيرة»، حتى صار وجهًا يثير الاحترام، وصوتًا يملؤه الصدق.

 

 

ربما تأخر ظهوره كوجه مألوف على الشاشة، لكن هذا لم يكن عائقًا أمام نضجه الفنى الذى تفجّر فى منتصف الثمانينيات، خاصة بعد مشاركته فى مسرحيات سياسية واجتماعية مؤثرة، مثل «الراجل اللى شال أمه» و«طقوس الإشارات والتحولات».
ما يميز لطفى لبيب أنه لم يكن يومًا «نجم الشباك»، لكنه كان «علامة المشهد».. فى فيلم أو مسلسل، قد لا يكون أول اسم على التتر، لكنك تنتظره ليظهر، فتصدق الشخصية. من الأب، إلى الطبيب، إلى الضابط، إلى الموظف المطحون.. تتعدد الوجوه ويظل هو لطفى لبيب: الصدق والبساطة.
تميز بحضوره الهادئ وأدائه الصادق الذى يدخل القلب دون مقدمات، حتى صار اسمه مرادفًا للجودة، مهما كانت مساحة الدور.
كثير من أدواره حجزت له مكانًا دائمًا فى ذاكرة الجمهور، كانت مؤثرة رغم بساطتها الظاهرية، منها «السفارة فى العمارة» 2005؛ حيث جسد شخصية السفير الإسرائيلى فى مواجهة شريف خيرى «عادل إمام»، الرافض للتطبيع، أدّاه بحرفية جعلت من الشخصية المكروهة سياسيًا نموذجًا واقعيًا، بلا مبالغة ولا شيطنة. هدوؤه، ملامحه الجامدة، طريقته فى الرد.. كلها رسمت شخصية دبلوماسية متقنة، لا تنسى.
رغم أن الدور كان ثانويًا نسبيًا، إلا أن لطفى لبيب أداه بقدر هائل من البرود السياسى والذكاء الماكر، قدم صورة دبلوماسية محنكة، واستطاع أن يخلق توترًا حقيقيًا فى المشاهد التى جمعته بالبطل، هذا الدور رسّخ مكانة لطفى لبيب كممثل قادر على التلاعب بالتفاصيل النفسية والسياسية بذكاء، بعيدًا عن الكليشيهات.
لطفى لبيب يمثل نوعًا من الفن القائم على الصدق الداخلى، والاحتراف دون ضجيج.. لم يكن ضيفًا على الفن، بل أحد أركانه الهادئة. لم يسع للبطولة، فصار بطلاً للأدوار الصامتة، وترك أثرًا لا يُنسى فى ذاكرة جيل كامل.
فى فيلم «عسل أسود» 2010، قدم شخصية «راضى»، السائق الذى يستقبل «مصرى» (أحمد حلمى) فور عودته من أمريكا إلى مصر، ويصاحبه طوال رحلته داخل البلد. يظهر كشخص بسيط من الطبقة الكادحة، لكنه يتمتع بفطرة نقية ومشاعر إنسانية صادقة.. يعيش حالة من التناقض بين المعاناة والرضا، وهو ما يُشير إليه اسمه «راضى»، الذى يُمكن اعتباره رمزيًا، حيث لا يلعب فقط دور السائق، بل يصبح لاحقًا مرآة لمصر كما يراها «مصرى» العائد من الخارج:
فى البداية، يراه مصرى بشكل سطحى (مجرد سائق بدائى)، لاحقًا، يكتشف أن راضى صاحب حكمة، وشعور بالكرامة، وفهم عميق للحياة رغم بساطته. يُعلّق تعليقات ساخرة أو ذكية تُعبّر عن الوعى الشعبى.
لطفى لبيب أدى الشخصية دون مبالغة، وبتوازن بين الكوميديا والدراما، اعتمد على تعبيرات الوجه ونبرة الصوت أكثر من الكلمات.. ساخر لكنه طيب القلب.. وجعل الجمهور يصدق أنها شخصية من الشارع المصرى، حضورها المحورى شكّل جسرًا بين «مصرى» المغترب عن بلده وبين الوطن الحقيقى الذى لم يره بوضوح.
فى فيلم «طباخ الريس» 2008، جسد رجل الديوان داخل القصرالجمهورى، أدى الشخصية بانضباط عسكرى ممزوج بمرونة إنسانية، فكان مزيجًا من السلطة والفهم الشعبى معبرا عن صورة دبلوماسية المؤسسة الرسمية بذكاء إنسانى ملفت.
وكذلك راهن على صدق الأداء وهو يجسد شخصية الصديق المخلص فى «ملك وكتابة»، وفى فيلم «محطة مصر» جسد شخصية ثرى الأرياف بروح كوميدية مختلفة.
فى مسرحياته السياسية مثل الرهائن، الملك هو الملك، أظهر لطفى لبيب قدرة عالية على تجسيد الرمزية السياسية والاجتماعية من خلال أدوار متعددة حملت رسائل قوية دون تكلف أو تنظير أو مباشرة؛ كان يمتلك أدوات نفسية دقيقة فى التمثيل: نظرة، سكون، سخرية ناعمة، عفوية محسوبة.
من المسرح الجاد إلى السينما التجارية، مرّ لبيب برحلة طويلة أثبت خلالها أن الفن ليس بالضوء وإنما بالبصمة.. كان المثال الأوضح على أن قيمة الدور لا تُقاس بعدد المشاهد، بل بمدى الصدق الذى يقدمه الفنان.. لم يكن ممثلاً «يصنع البطولة»، بل ممثلاً يخدم القصة والرسالة.
ويبقى لطفى لبيب، ببساطته، رمزًا للفنان الذى لم يساوم على فنه، ولم يغادر الشاشة إلا حين غلبه الجسد. لكنه، فى قلوبنا، باقٍ.. حاضرًا بصوته ونظرته وإخلاصه الذى لا تمحوه السنوات.
رغم مرضه وابتعاده نسبيا مؤخرًا، لكنه احتفظ بمكانة رفيعة لا تقل عن أى نجم شباك.
.. تحية كبيرة لفنان احترم عقله وفنه وجمهوره.. فبادله الجمهور احترامًا وحبًا لا يزول.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة