x قد يعجبك أيضا

«القفزة» التى استعادت الحياة!

السبت 9 أغسطس 2025 - 6:40 م

أحب الروايات الذكية والطموحة، التى تقدم نماذج ومواقف إنسانية ثرية ومختلفة، وتمنحنا بهجة الفكر والفن معًا. ومن هذه النوعية، هذه الرواية السويسرية المترجمة، الصادرة عن دار الكرمة بعنوان «القفزة»، كتبتها سيمونه لابرت، وترجمها سمير جريس. ورغم أن الرواية هى العمل الثانى لمؤلفتها، فإنها رُشحت لجائزة الكتاب السويسرى، واختيرت فى عام 2020 كأفضل عمل أحبه القراء فى سويسرا.


لكن الحكاية، التى تدور فى مدينة صغيرة للغاية، تتجاوز هذا الإطار لتنطلق إلى آفاق إنسانية واسعة، عبر تأمل عميق وبسيط وساخر، وهى معادلة صعبة، لحياتنا المعاصرة الهشّة، التى تجعلنا أقرب ما نكون إلى جزر منعزلة، نستسلم للعادى والمألوف، حتى يقع حادث يكسر هذه الرتابة ويخرجنا من تلك الدائرة المفرغة. هذا ما حدث ذات صباح، حين وقفت فتاة شابة فوق سطح منزل، وبدا وكأنها تهدد بالانتحار قفزًا إلى الشارع. وما إن وصلت سيارات الشرطة والإسعاف، وتجمع الناس ومراسلو الصحافة والتليفزيون، حتى زادت ثورة الفتاة، فألقت الطوب على الجميع، وطالبتهم بالانسحاب.


تحاول الرواية، عبر بناء معقد، اكتشاف حكاية بطلة «القفزة»، وحشد من الشخصيات التى نتابعها قبل يوم القفز، ثم فى يوم التهديد بالقفز، ثم نتابع الشخصيات بعد أن قفزت الفتاة بالفعل. هى - إذن - رواية شخصيات وقصص منفصلة، ستجمع بينها هذه «القفزة». وهى ليست فقط حكاية مانويلا، الفتاة التى تريد أن تقفز، وإنما حكاية المدينة وشخصياتها الهائمة فى فراغ حياتها، التى تفتقد - مثل مانويلا - التعاطف والتفهم الإنسانى، وتحتاج أيضًا إلى «لحظة جنون» تخرجها من الملل، وتدعوها إلى مراجعة حياتها وأفكارها، وربما إلى التحرر من حياتها القديمة العادية المملة، وتوسيع وتعميق عالمها المحدود المغلق.


الرواية، التى يتصدرها قانون الجاذبية الأول لنيوتن، القائل بأن كل جسم يبقى على حالته من السكون أو الحركة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تغيّر من حالته، ليست فى جوهرها إلا اختبارًا لهذا القانون، ومدى تغيّر أحوال سكان المدينة بعد «يوم القفزة». وسنكتشف - فى النهاية - أنها ليست قفزة إلى الموت، بل إلى اكتشاف حياة أفضل. وسنكتشف عمومًا أن الحياة تحتاج إلى المغامرة والجرأة وبعض الجنون أحيانًا، وأنها تظل بلا معنى أو طعم دون الحب والأصدقاء، ودون تلك العلاقة المنسجمة، التى لا بديل لها، مع الآخر، ومع الطبيعة، ومع الذات قبل كل شىء.


بدلًا من أن تجعل كل شخصية تحكى بصوتها، اختارت المؤلفة أن تحكى عنهم جميعًا بصوتٍ عليم بكل التفاصيل، وكأننا أمام عين إضافية من المدينة تعرف الجميع وتشهد عليهم، مع وضع اسم الشخصية قبل الجزء الخاص بها، واستقصاء شامل لظروفها وماضيها وحاضرها بطريقة توثيقية. فالبشر هنا هم الحكاية، وهم عنوان الرحلة. وإذا كانت «مانويلا» قد أحدثت القوة المحركة، فإن الشخصيات كانت تنتظر الفرصة، وهى ليست أقل قلقًا وصراعًا داخليًا من مانويلا.


نجحت المؤلفة فى رسم عدد كبير من الشخصيات المختلفة، ولاحظتُ بشكلٍ خاص أنها كانت تركز طوال الوقت على «الأشياء» المحيطة بتلك الشخصيات، وهى أشياء مكدسة بصورة مزعجة، منها ما نحتاجه، ومنها ما لم تعد له أهمية. هذا الإسراف فى وصف الأشياء المحيطة بكل شخصية هو جزء من الأزمة، ومن ملامح الحياة المعاصرة، فقد صارت الحياة مجرد «أشياء مكدسة»، بينما غابت العواطف والمشاعر، وصار الإنسان تائهًا ومعلقًا فى الفراغ، إلى حد أنك لا تعرف بالضبط: هل تصف المؤلفة جسد مانويلا وهو يسقط فى الهواء فى افتتاحية الرواية، أم تصف المدينة وشخصياتها وهى فى الحالة العجيبة ذاتها؟


مانويلا، عاشقة الطبيعة، شخصية مدهشة وفريدة، تعمل بستانية بالقطعة، وتسرق النباتات المسجونة فى أصص الزرع بالمنازل، لتعيد زرعها فى الغابة. وصعودها فوق البيت كان بسبب هروبها من سجنها داخل بلكونة. «مانويلا» هى الإنسان الحر المتسق مع ذاته، لكنها تعانى من عالم فقد إنسانيته، ورغم أنها دخلت المصحة من قبل، فإن شخصيتها هى الأكثر فهمًا للحياة والأكثر اتساقًا معها.


تتعدد الحبكات الموازية فى قصص الشخصيات الأخرى: رجل الشرطة الذى يحاول إنقاذ مانويلا، هو نفسه أسير عقدة الطفولة، ويخاف من إنجاب طفل قد يذكره بما يحاول نسيانه. وصاحب وصاحبة المتجر القديم أمام البيت الذى ستقفز منه مانويلا، سيشهدان رواجًا استثنائيًا بسبب حشد المتفرجين، لكن ماذا سيبقى لهما وللمتجر بعد أن ينفض المولد؟ وصديق مانويلا، الذى كان يحلم بالسفر للمشاركة فى سباقات الدراجات، يكتشف أنه يريد البقاء فى المدينة، لأن فيها حبيبته الوحيدة، ويدرك الآن أنه يحبها أكثر، كلما اكتشف عنها شيئًا لا يعرفه.


حكايات كثيرة سيُعاد تكوينها مثل قطع البازل: المشرّد الذى يكسب رزقه بكتابة أسئلة يجيب عنها الناس، صانع القبعات المدهش الذى صار عاملًا فى مجزر للخنازير، الخياطة التى تكتشف خيانة الرجال، أخت مانويلا غير الشقيقة التى تطمح للفوز بلقب العمدة وتشعر أن قفزة أختها ستهز مستقبلها السياسى، العجوز الوحيدة التى أبلغت الشرطة، الشاب الذى يتسلى بتصوير الحادثة، الرجل العجوز الذى يرعى أمه ويراقب أهل مدينته بالمنظار، وسيدة المقهى المتعاطفة التى تعرف مفاتيح الجميع.
تعيد «القفزة» الحياة إلى جسد المدينة النائمة، وتكشف إنسانية مستترة وغائبة، مثل مساندة طالبة لصديقتها فى مواجهة ابتزاز صديقهما. نرى البشر بمنظار داخلى، لا خارجى فحسب، ونبدو ككائنات وحيدة مثيرة للرثاء، لو لم نكسر تلك الدوائر التى تعزلنا عن أنفسنا، وعن الآخرين، وعن الطبيعة.


ربما كان من الأفضل البدء مباشرة بيوم الحادثة بدلًا من يوم ما قبلها، وربما تحتاج بعض الفصول إلى التكثيف، لكن «القفزة» عمل كبير ومؤثر، مُشيَّد من تفاصيل صغيرة، ومكتوب بمزيج متفرد من السخرية والتعاطف. نحن بحاجة حقًّا إلى قفزة مجنونة أحيانًا، لكى نكون أفضل.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة