بينما أقرت الحكومة الإسرائيلية خطة احتلال غزة بالكامل، تتواصل المقترحات بخصوص خطة ما يسمى بـ «اليوم التالى» أى لما بعد أن تنتهى الحرب. فى فبراير من العام الجارى، زار زعيم المعارضة الإسرائيلى ورئيس الوزراء الأسبق يائير لابيد واشنطن ليلتقى ببعض المسئولين فى الإدارة الأمريكية، وفى هذا اللقاء طرح عليهم خطة لحل أزمة قطاع غزة.
ووفقا لهذه الخطة، ستقوم مصر بإدارة القطاع دون احتلاله، فى مقابل إعفاء مصر من ديونها التى تبلغ حوالى ١٥٣ مليار دولار أمريكى!
وبحسب الخطة، فإن إدارة مصر للقطاع ستستمر لمدة ١٥ عاما قابلة للتجديد، وستتولى مصر قيادة «قوة سلام إقليمية» تتكون من قوات مصرية وأخرى عربية، وسيكون لها ثلاث مهام رئيسية: المهمة الأولى تتمثل فى نزع سلاح حركة حماس وباقى الحركات المسلحة الأخرى كالجهاد، بينما تتمثل المهمة الثانية فى إعادة بناء القطاع، أما المهمة الثالثة فتتمثل فى توفير الأمن على الحدود بين قطاع غزة ومصر، وبين القطاع وإسرائيل، بحيث تنتشر القوات الإسرائيلية على حدود القطاع، بينما تتولى آلية أمنية مصرية ــ أمريكية ــ إسرائيلية منع التهديدات التى قد يشكلها القطاع على أمن إسرائيل، بما فى ذلك وقف تهريب السلاح وتدمير الأنفاق، لحين تمكّن السلطة الفلسطينية من حكم غزة. وقد رفضت مصر الخطة فى حينها وأكدت أن مسئولية السلام يجب أن تكون دولية، وأنها مستعدة للمشاركة فى جهود إعادة الإعمار، لكنها ترفض حكم القطاع.
• • •
تكرر المقترح مرة أخرى، وهذه المرة من الدبلوماسى والكاتب والأكاديمى عز الدين فشير، حيث كتب مقالة مهمة فى جريدة واشنطن بوست بعنوان: «This Country Should Take Over Gaza ــ For Now«، وهو ما يمكن ترجمته إلى «هذه الدولة ينبغى عليها أن تسيطر على قطاع غزة ــ فى الوقت الراهن». فى مقال فشير تفاصيل أكبر من المقترح الذى قدمه لابيد، ولا يمكن بطبيعة الحال ترجمة كل المقترح هنا، لكن أهم ما احتواه (بحسب تقديرى) هو ما يلى:
أولًا: أن تكون سيطرة مصر على القطاع فى إطار الوصاية وليس الاحتلال.
ثانيًا: العمل على اتفاقيتين؛ الأولى ثلاثية بين مصر وحماس والسلطة الفلسطينية، وتشمل إدارة مصر للقطاع أمنيًا وعسكريًا وبيروقراطيًا (إداريًا)، كما تشمل تسليم حماس لسلاحها وتسجيل كل أعضائها لدى السلطات المصرية، وتسليم كل الرهائن الإسرائيليين، وتدريب كوادر من السلطة الفلسطينية تستطيع الحكم مستقبلًا. أما الثانية فهى اتفاقية ثنائية بين مصر وإسرائيل، وتشمل انسحاب إسرائيل عسكريًا من القطاع والتنسيق حول مهام الحدود بين القطاع وإسرائيل، والقضاء على أى تهديدات لإسرائيل من القطاع.
ثالثًا: أن تكون مهمة إعمار القطاع من قوى دولية (الولايات المتحدة ــ الاتحاد الأوروبى ــ دول عربية أخرى)، على أن تقوم هذه الدول بما هو أكثر من مجرد إعادة الإعمار، بحيث يتم إنعاش القطاع اقتصاديًا من خلال جلب استثمارات دولية، وبناء ميناء برى وميناء بحرى.
رابعًا: أن يتم فك الارتباط التجارى والاقتصادى والمالى بين القطاع وإسرائيل، لعدم إمكانية إعادة هذا الارتباط كما كان من قبل، وأن تتحول مدينة العريش إلى مركز لخدمة غزة تجاريًا وماليًا بشكل مؤقت حتى تتم عملية إعادة إعمارها، مع تحفيز الاقتصاد المصرى بإلغاء أو تخفيف الديون الدولية عليه.
• • •
قبل التعليق على هذا المقترح، لا بد من إيضاح نقطتين: الأولى أن تشابه المقترح بين لابيد وفشير لا يعنى بالضرورة وجود أى تنسيق، فمقترح فشير أكثر تفصيلًا من ناحية، وبشكل عام فهذا المقترح مطروح منذ زمن بعيد بواسطة أكثر من طرف، منها أطراف محسوبة على السلطة الفلسطينية سابقًا من ناحية أخرى. أما النقطة الثانية فهى أن واحدة من مشاكل الثقافة العربية فى التعامل مع المقترحات غير الاعتيادية، هى الطعن فى الأشخاص لا التعامل مع المضمون، ومن ثم ينتهى الأمر عادة باتهامات بلهاء لا دليل عليها، والأهم أن ذلك لا يمكن أن يبنى أى نقاش أو يطور أى مقترح، بل هو أسلوب تفكيكى هجومى متهور. ومن ثم فإن السطور القليلة القادمة تتعامل مع المقترح كمضمون لا مع شخصية أو ذمة صاحبه.
أولًا: رغم رفضى لمجمل المقترح، فإن هذا لا يعنى أن كل المحاور التى اشتمل عليها مرفوضة، ففشير تمكن من وضع مقترح يتجاوز العموميات ويركز على الظروف على الأرض ببرجماتية شديدة، وهو ما أتفق معه، فلم تعد القضية الفلسطينية تتحمل شعارات فارغة من زمن غابر لا شأن له بالأوضاع الإقليمية وتوازنات القوة الحالية.
ثانيًا: حتى أكون أكثر تفصيلاً، فإن مقترح فك الارتباط التجارى والاقتصادى بين القطاع وإسرائيل، ووساطة مصر للتنسيق مع إسرائيل بشأن انسحاب جيش الأخيرة من القطاع مع إعادة كل الأسرى الأحياء منهم والأموات، وقيام مصر بتدريب الكوادر الفلسطينية لحكم القطاع، ومساهمة مصر فى جهود إعادة الإعمار مع تخفيف ضغط الديون عليها، كلها أمور مقبولة. لأنها تشمل حل قضايا عالقة منذ ٧ أكتوبر، بل وقبل هذا التاريخ أيضًا، ولأن ذلك سيضع حدًا لمعاناة الفلسطينيين فى القطاع.
ثالثًا: بخصوص مقترحات حل حركة حماس وتسليم سلاحها، فهو ــ فى رأيى ــ أمر حتمى لإنهاء احتلال إسرائيل للقطاع ولإنهاء المأساة البشرية فى غزة. حماس يجب أن تقبل حقيقة واضحة؛ صحيح أنها وجهت ضربات موجعة لإسرائيل لم تكن الأخيرة تتخيلها حتى فى أسوأ كوابيسها، لكن فى المقابل، وبكل المعايير البشرية والجغرافية والعسكرية، فقد هُزمت الحركة، وكانت نتائج ٧ أكتوبر هادمة لأمل حماس فى تحرير كل فلسطين، ومثلت أيضًا لعنة على القطاع الذى تم احتلاله وتدميره، وتعرض سكانه لمذابح جماعية ومجاعة ما زالت تضربه.
رابعًا: إن كنت أتفق مع كل العناصر السابقة فى المقترح، فإن رفضى لمجمل المقترح يأتى من نقطتين محددتين: الأولى، رفضى القاطع أن تسيطر مصر على القطاع أمنيًا وإداريًا، والثانية، رفضى القاطع لأن تكون مصر هى المسئولة عن نزع سلاح حماس وتسجيل كل عناصرها فى ملفات الجهات الأمنية المصرية.
1. أن تسيطر مصر على القطاع إداريًا وأمنيًا سيكون فخًا لن تنجو منه أبدًا، وسيكون مهددًا لأمننا القومى. ففى قطاع مدمر بهذا الشكل، وشعب فى حالة نفسية كابوسية كهذه، فإن قيام دولة واحدة بمهام الأمن سيكون لغمًا سينفجر فى وجه المصريين فى أية لحظة، ووقتها لن تكون المأساة مقتصرة على غزة، بل ستمتد إلى شبه جزيرة سيناء.
2. إن تسليم حماس سلاحها لمصر هو لغم آخر سينفجر فى وجه المصريين، بسبب الحساسيات المعروفة تاريخيًا بين النظام المصرى والحركة خصوصًا، والجماعات الإسلامية عمومًا، وبسبب الخلط المتعمد بين سردية المقاومة وسردية الإرهاب عالميًا قبل إقليميًا، هذا فضلاً عن أنه لا يمكن لمصر بأى حال أن تضمن أن سلاح حماس قد تم تسليمه بالكامل، ومن ثم فإن أى استخدام مستقبلى للسلاح سيكون مسئولية مصر، ووقتها ستتم محاصرتنا عالميًا وتحميلنا المسئولية القانونية والأخلاقية عن استخدام هذا السلاح.
3. المسكوت عنه فى هذا المقترح هو أنفاق غزة؛ فحتى لو افترضنا أن حماس ستقبل بتسليم سلاحها للمصريين، فهل ستكون مهمة مصر أيضًا هدم كل هذه الأنفاق؟ وإذا كانت إسرائيل والولايات المتحدة، بكل التقنيات العسكرية المتقدمة التى تحوزها، عاجزتين حتى اللحظة عن تدمير الأنفاق أو تحديد خريطتها، وسط تقديرات تقول إن الأنفاق قد تكون بالفعل مدينة كاملة وربما هى مدينتان تحت الأرض، فهل ستتمكن مصر من حصرها، ناهيك عن تدميرها؟
4. إن سيطرة مصر الإدارية والأمنية على القطاع مع تحول مدينة العريش إلى مركز تجارى ومالى لدعم القطاع، يعنى بالضرورة تصدير قضايا اللاجئين والتهجير إلى مصر، والخطة الأخيرة لم تعد سرًا، فقد عبّر عنها اليمين الإسرائيلى الحاكم أكثر من مرة، ونحن نعلم ــ وهم يعلمون ــ مآلات هذه الخطة وتأثيرها علينا.
5. لا يمكن عندما نتحدث عن البرجماتية أن نفصل السياق التاريخى عن الحاضر. وتاريخيًا، فإن حكم مصر للقطاع بالوكالة عن طريق مجلس عموم فلسطين (١٩٤٩-١٩٥٩)، وبشكل مباشر إداريًا وأمنيًا وسياسيًا (١٩٥٩-١٩٦٧)، كان واحدًا من أهم الأسباب التاريخية لشيطنة الدور المصرى فى غزة، وما «ثورة غزة» فى مارس من عام ١٩٥٥ ضد التواجد المصرى، وسط شائعات انتشرت حول تهجير الفلسطينيين إلى مصر، إلا مجرد مثال واحد للعديد من الأمثلة على النتائج التاريخية لهذه التجربة المريرة وما طال مصر منها ــ وما زال ــ من لغط وهمز ولمز.
أن يتم إسالة لعاب مصر بخفض ديونها أو حتى إلغاء هذه الديون كلها سيكون ثمنًا بخسًا لتهديد أمننا القومى، وتمكين إسرائيل من تصدير مسئولياتها القانونية والأخلاقية والأمنية والتاريخية إلى مصر، وهو فخ لا يجب على مصر أبدًا القبول بالوقوع فيه.
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر