حذاء الجنرال دى جول

السبت 7 يونيو 2025 - 5:15 م

صفوف طويلة من الأحذية المستعملة تركها أصحابها أمام باب الجامع عند صلاة العيد، بعضها مستهلك جدا... أعناقها مرفوعة وأفواهها مفتوحة. أخذ يبحث بينها عن ما يخصه. حذاء يشبه الذى اشتهر به الجنرال دى جول، السياسى الفرنسى ذو القدم الكبيرة. وعلى الأغلب بمرور الوقت سيقترب شكله من ذاك الذى رسمه الفنان الهولندى فان جوخ دون أن يلقى قبولا لدى الجماهير، إذ وجدته باليا وقد أضنته التجاعيد وعوامل التعرية. كتب عنه الفيلسوف الألمانى هايدجر واعتبره مثالا على أسباب التعلق والشحنة العاطفية التى تربط الأشخاص بأشيائهم، وقال الناقد الأمريكى شابيرو عن حذاء فان جوخ إن الفنان أراد أن يخبرنا من خلاله عن حياته الصعبة وإنه بمثابة لوحة ذاتية أو «أوتوبورتريه».
الباحث عن حذائه وسط جموع المصلين راح يمعن النظر فى الوجوه المحيطة، فهو أيضا على قناعة تامة أن «النعال تشبه أصحابها». أسباب الشقاء حُفِرت بداخلها وكذلك مظاهر رغد العيش ونعيمه، فتفاصيل الحذاء تشى بالكثير فى هذا الصدد، وهو مراقب جيد دون شك ويعرف أن الجماد ينطق أحيانا وقد يصير حليفا وفيا للإنسان. ينطبق ذلك على حذائه الذى رافقه حرفيا كظله. يخشى ما يخشاه حاليا أن يكون قد سرقه أحدهم أو فُقِد وسط الزحام، وهو أمر شائع خاصة فى المواسم والأعياد. إضافة إلى أنه من الجلد الطبيعى وغالى الثمن، اشتراه خلال زيارته الأخيرة لفرنسا التى ارتبط بها منذ أن أمضى سنوات الدراسات العليا بمجال القانون هناك. حصل على منحة حكومية ممولة بالكامل، واعتبر هذه الفترة من أفضل مراحل حياته. كان يحاول تعلم اللغة واستيعاب ثقافة مغايرة واكتشاف الغرب واختبار قدرته على التأقلم وتطوير الذات. ونجح فى الامتحان. ثم مضى به قطار العمر حتى أصبح موظفا كبيرا على المعاش يقف أمام أحد مساجد العاصمة الذى تم إنشاؤه فى نهاية عشرينيات القرن الماضى، بالضاحية التى كانت يوما أنيقة وهادئة.
• • •
يتذكر حذاء العيد الذى كان يأخذه معه إلى الفراش فى مثل هذه الأيام المفترجة، فقد اهتم بأحذيته منذ الطفولة واعتاد تنظيفها بنفسه وتدرب على طقوس التلميع واستخدام الورنيش حتى صار الموضوع هواية وخبرة، بخلاف أخيه الذى توفى أخيرا... ربما كان الاعتناء بالحذاء هو بداية خلافاتهما التى تعمقت مع الزمن، وظل الود بينهما متقلبا، لكن الآن لا يجوز عليه سوى الرحمة. أراد أن يقلب الصفحة ويغوص فى ذكريات أخرى تخص الطفولة ومحاولاته الدائمة فى لبس أحذية النساء ذات الكعب العالى على سبيل التجربة. ظن أنه من اللطف أن يضع نفسه مكانهن، ووجد أن الشياكة والرشاقة تكلفتهن باهظة ومتعبة، فثبات الجسم يتناسب طرديا مع سعة القاعدة التى يرتكز بها على الأرض، وبما أن الإنسان عبارة عن عمود متحرك، لذا فلبس المرأة للكعب العالى هو قلب للقاعدة لأنها تضطر إلى الميل للأمام والمشى على أطراف أصابعها. ورغم كل التعاطف معها إلا أنه لم يستطع أن يُعجب بالسيدات اللائى يرتدين أحذية طبية ذات نعال بيضاء من «الكريب» الطبيعى، ولا يحب عموما الأحذية البيضاء، فالنساء يبدون فى نظره كالممرضات، ولهن كل الاحترام بالطبع، كما لا يمكنه أن يثق برجل يلبس حذاءً أبيض اللون.. ربما يرجع ذلك لارتباط شرطى، ليس بوسعه تحديد مصدره وتاريخه!
مثله مثل كل المراهقين مر بمرحلة التمرد والرغبة فى إثبات الذات وفرض شخصيته وتحدى الأهل. وأبسط الأمور التى تمسك فيها برأيه كانت رفضه لجزم "باتا" الرياضية البيضاء، التى صارت ضمن التراث خاصة عقب إغلاق مصنعها نهائيا بمصر فى يونيو 2023، بعد تاريخ حافل استمر 94 عاما. كان صاحبنا يصمم على ارتداء حذاء رياضى أزرق ويتعالى على الأبيض، مبررا لأهله أنه لا يعشق الألوان الباهتة والمحايدة. يردد كلمات فخمة ورنانة لا يعرف معناها بالضرورة، لكن حينها كانت تبدو على ما يرام ومناسبة للموقف.
• • •
لم تكن لفظة «كوتشى» دارجة بين أبناء جيله، بعكس الآن إذ دخلت فى ثنايا اللغة وكتب عنها شاعر العامية مصطفى إبراهيم قبل سنوات أغنية «الكوتشى اللى باش م اللف فى شوارعك، يحرم عليه يبوس أرض غيرك. والقلب القماش اللى مكوى بعاميلك لساه معبق بريحة عبيرك». هو لا ينتمى لجيل الشاعر، لكنه يشبه «الواد اللى عاش طول عمره يحايلك» الذى يتحدث عنه، فقد رفض أن يغادر مصر رغم كل الإغراءات وظل مقيما فى مدينته الأثيرة التى تنافس باريس بدرجة التعلق.
ما زالت عملية البحث مستمرة. يلتقط زوجى حذاء ظنا منه أنه وجد ضالته، لكن سرعان ما تتضح الحقيقة، فهو يميز بسهولة بين الأصلى والتقليد... وهذا الحذاء الذى خدعه فى البداية ينتمى لفئة التقليد الجيد الذى تبرع فيه الصين. على الأرض، أمام عتبة الجامع، تتجلى ملامح المنافسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين من خلال الماركات العالمية المزيفة التى أصبحت فى متناول عدد أكبر من سكان الحى من أبناء الطبقة الوسطى بشرائحها. لم يعد بمقدور هؤلاء شراء علامات تجارية بعينها، لذا فهم يلجأون إلى البدائل الصينية الأرخص ثمنا. البشر ليسوا جميعا سواسية، على الأقل فى نظر بعضهم البعض، هم يتفاضلون بالنسب والمال، أما ما استقر فى الأفئدة من تقوى فقد تركوها داخل المسجد بعد نقطة توحيد الصفوف، هو الآن فى مرحلة مقارنة الأحذية.. بعضها تحيط ياقته بالكاحل وبعضها مبطنة لمزيد من الراحة وبعضها متهالك ويحتاج إلى إنقاذ عاجل.. أحذية رعاة بقر وأخرى أقرب للموديلات الصينية التقليدية.
تذكر منع ارتداء الكعوب العالية أثناء الثورة الثقافية فى الصين حتى لو لم يعد مـتأكدا من السبب على وجه الدقة. انتشرت وقتها «بدلة ماو» حول العالم واستلهمها مصممو الأزياء الفرنسيون مثل بيير كاردان من صور المسيرة الطويلة، كان ذلك خلال تحضيره للدكتوراه بباريس فى سبعينيات القرن الماضى. تتصاعد ضربات قلبه، هل فقد حذاءه للأبد؟ تحاصره الروائح كلما اقترب ليتفحص الأشكال المختلفة المتكدسة أمام الباب، مزيج من العرق وما ينتج عن الباكتيريا ورائحة خفيفة تشبه البنزين كتلك التى تميز أحذية العيد الجديدة، وخليط من العطور والزيوت الأساسية التى قام ببخها المصلون فى الهواء. واضح أن الله كتب عليه التغيير، فهو بحاجة إليه، وسيبدأ بالحذاء، رغم أنه كان يفضل اختيار التوقيت المناسب.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة