x قد يعجبك أيضا

‎السلطة والثروة وتسليع العقارات فى مصر

الأحد 24 أغسطس 2025 - 7:20 م

‎الخلاف حول قانون الإيجارات الجديد وقيام سلطات الدولة بالمتاجرة بالأراضى هو مظهر لتطور جديد لم تعرفه مصر على امتداد تاريخها الطويل، وهو تسليع الملكيات العقارية، أى تحويلها ـ سواء كانت أراضى مزروعة أو صحراوية أو أرضًا فضاء أو عقارًا مبنيًا ـ إلى سلعة قابلة للتداول فى السوق، خلافًا لما كان سائدًا قبل ذلك؛ حيث كان الهدف من حيازة أو تملك أو السيطرة على عقار ما هو الاستفادة من هذه السلعة واستمرارها باعتبارها قيمة فى حد ذاتها، ليس لما تجلبه من ثروة فقط، ولكن لما تضفيه على صاحبها من مكانة اجتماعية. ولذلك وقر فى عقول المصريين، سواء كانوا من كبار الملاك أو صغارهم، أن التخلى عن هذه الملكية عار لا يعادله عار آخر. ألا تذكرون الأغنية الشهيرة فى رائعة عبد الرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس، التى تحولت فيلمًا من أخلد ما أبدعت السينما المصرية: عواد باع أرضه يا أولاد؟ بل إن الجديد فى الأمر أن بعض مؤسسات الدولة نفسها دخلت فى هذه التجارة، وأصبحت الفاعل الرئيسى فيها، وارتبط هذا التحول بالأزمة المالية للحكومة، وبمفهوم من بيدهم الأمر لاقتصاد السوق. فكيف جرى هذا التطور؟ وما أسبابه؟ وما نتائجه؟ وما مخاطره؟

‎التاريخ المختصر لملكية الأراضى فى مصر

‎تاريخ ملكية الأراضى فى مصر طويل، ولا يمكن فصله عن علاقات القوة السياسية فيها؛ فالمساحات الأكبر من الأراضى كانت فى يد الدولة وكبار المسئولين، وتولى الفلاحون الفقراء زراعة هذه المساحات على امتداد العصور مقابل دفع ضريبة كانت لها مسميات مختلفة. وربما مارس ملاك آخرون الإشراف على زراعة هذه الأراضى التى آلت إليهم، ولكن ملكية الأراضى قانونًا ظاهرة وصلت إلى مصر متأخرة، عندما بدأ الزحف نحو اندماجها فى سوق عالمية كان ثمن دخوله مديونية هائلة تحملها حكام مصر، وكان الخديوى إسماعيل أهم من دفعوا هذا الثمن؛ فأصدر قانون «المقابلة» عام 1871، وبموجبه اعترفت الحكومة بملكية الأراضى لأولئك الحائزين الذين تمكنوا من دفع ضريبة الأراضى للسنوات الست التالية مرة واحدة. صحيح أن الخديوى توفيق ألغاه سنة 1880، وأعاد بعض هذه الأموال لمن كانوا قد دفعوها، ولكن الملكية الخاصة للأراضى تكرست فى مصر منذ ذلك التاريخ.

‎ومع أن الأراضى الزراعية تحولت إلى الملكية الخاصة منذ ذلك التاريخ، إلا أن الصلة بين سلطة الدولة وملكية الأراضى لم تنقطع؛ فقسم واسع من هذه الأراضى كان ملكًا للأسرة المالكة، وكان كبار الملاك الآخرين عماد الأحزاب والحكومات التى تشكلت فى مصر المستقلة منذ 1922. ولم تنفصم هذه الصلة بين ملاك الأراضى وحكام مصر إلا بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعى المتتابعة بعد ثورة 1952، التى قضت على ظاهرة الملكيات الكبيرة بالقوانين الصادرة فى أعوام 1952 و1961 و1969، وانتهت بوضع حد أقصى لملكية الفرد لا يتجاوز خمسين فدانًا. وفضلًا عن انفصام الصلة بين ملكية الأراضى أو العقارات والنفوذ السياسى على المستوى المركزى، فإن قيمة امتلاك العقارات كمصدر للثروة قد تراجعت كثيرًا مع تنوع الاقتصاد الذى بدأ بخطى حثيثة مع بدايات ظهور رأسمالية مصرية نشطة فى قطاعات الصناعة والمال والتجارة الخارجية والنقل. وظهر من بين كبار الأثرياء من تولدت ثروته من هذه الأنشطة الجديدة، فضلًا عن القيود التى أدخلتها سلطة يوليو على قيمة إيجارات الأراضى الزراعية وتحديد إيجارات المساكن. وتواكب ذلك مع صعود شرائح من الطبقة الوسطى الذين تلقوا تعليمًا جامعيًا ليكونوا القاعدة الاجتماعية لسلطة يوليو فى عهد جمال عبد الناصر، وأصبح التعليم الجامعى هو الطريق للصعود الاجتماعى بل والمشاركة السياسية من خلال التنظيم السياسى الواحد.

البدايات الأولى لتسليع الأراضى

‎خطا الرئيس أنور السادات الخطوات الأولى على طريق تسليع الأراضى، ولكن بصورة متواضعة. كان يحلم بامتداد العمران المصرى خارج الدلتا، ولذلك شرعت حكومته فى بناء مدن صناعية جديدة فى السادات و6 أكتوبر والعاشر من رمضان، بل وفى استصلاح الأراضى على نطاق واسع من خلال مشروع الصالحية فى شرق الدلتا. وقد أتاحت هذه المشروعات للرأسمالية المصرية فرصة امتلاك أراضٍ لإقامة مشروعات صناعية أو للتوسع الزراعى، وذلك بشروط متساهلة للغاية؛ فلم يكن الهدف من إتاحة التملك فى هذه المشروعات زيادة إيرادات الحكومة مباشرة، وإنما تحقيقها لاحقًا من خلال الضرائب التى تجنيها بعد نجاح هذه المشروعات، وهى رؤية رشيدة فى حد ذاتها.

‎لكن الخطوة الأكبر نحو تسليع الأراضى تمت فى عهد الرئيس حسنى مبارك. فقد كان إصدار قانون إيجارات الأراضى الزراعية عام 1993 تحولًا مهمًا؛ فمع زيادة سكان الريف وضيق المساحة المزروعة ارتفعت على أرض الواقع قيمة الأراضى الزراعية، ولذلك تطلع ملاك الأراضى، الذين كانوا يعهدون للفلاحين بزراعتها مقابل إيجار حددته قوانين الإصلاح الزراعى بسبعة أمثال ضريبة زراعية ظلت ثابتة، إلى التحرر من هذه القيود. وتحت ضغوط المؤسسات المالية الدولية ومقدمى المعونات، ومع زيادة نفوذ ملاك الأراضى داخل مؤسسات نظام مبارك الحزبية والتشريعية، خصوصًا على المستوى المحلى، أصدرت الحكومة هذا القانون رغم مقاومة الفلاحين من صغار المستأجرين. وفتح ذلك الباب أمام المتاجرة بالأراضى الزراعية، خصوصًا بتحويلها إلى أغراض البناء فى الريف والمدن المتوسعة، وأصبحت تلك مشكلة فى حد ذاتها التهمت قرابة 12% من الأراضى الصالحة للزراعة بتبويرها أو البناء عليها مباشرة، فى بلد يعانى أصلًا  من ضيق المساحة المزروعة وارتفاع معدلات النمو السكانى. ولم تنجح جهود الحكومة فى وقف هذا التطور.

‎ومع الأزمة المالية للحكومة التى استمرت طوال عهد الرئيسين السادات ومبارك، ابتكرت البيروقراطية الحكومية على أعلى مستوياتها فكرة بيع الأراضى الصحراوية للبناء الفاخر، سواء فى المجتمعات العمرانية الجديدة حول المدن الكبرى على امتداد ساحل البحر الأبيض أولًا ثم البحر الأحمر بعد ذلك. وتحولت مشروعات التنمية الشاملة فى الساحل الشمالى، التى كان يفترض أن تجمع بين التنمية الزراعية والصناعية والخدمية والسياحية، إلى مجرد منتجعات للقلة الموسرة فى مصر لا تُستخدم أكثر من شهرين على الأكثر فى السنة، ويصبح امتلاك شاليه فيها، كما هو الحال فى المنتجعات العمرانية حول المدن الكبرى، دليلًا على المكانة الاجتماعية الحصرية.

‎القفزة الكبرى فى التسليع فى السنوات الأخيرة

‎ثم كانت القفزة الكبرى فى مسيرة التسليع ما جرى فى السنوات الأخيرة، تحت تفاقم الأزمة المالية للدولة ومطالبة صندوق النقد الدولى بخفض عجز الموازنة من ناحية، واستغراق الحكومة فى إقامة مشروعات طموحة للبنية الأساسية تشمل العاصمة الإدارية، والعاصمة الصيفية، وشبكة واسعة من الطرق السريعة من ناحية أخرى. ومع ضيق الموارد المالية المتاحة لأجهزة الدولة، ومع الفهم الخاطئ للمقصود باقتصاد السوق، تبارت هذه الأجهزة فى المتاجرة بما يقع تحت سلطتها من أراضٍ أو عقارات تحت حجج قانونية واهية؛ فلم تسلم الأراضى الصحراوية ولا الأراضى الفضاء فى المدن من هجمة التسليع. كما جاء إخفاق الصندوق السيادى فى توليد موارد للدولة نتيجة تصفية القطاع العام وهو ما لم يحدث ليتخذ ستارًا لتوفير موارد لأجهزة فى الدولة بدعاوى متباينة؛ منها تسديد قيمة مبانى الوزارات فى العاصمة الإدارية ببيع مبانيها فى القاهرة لصالح شركة العاصمة الإدارية، أو «استثمار» ما يجب أن يكون فضاءً عامًا متاحًا لكل المواطنين مثل شواطئ البحار والنيل لصالح مستثمرين مجهولى النوايا والأفكار، وذلك خلافًا لنصوص دستورية وممارسات ثابتة فى الدول التى ابتدعت اقتصاد السوق. وأخيرًا جاء إقرار قانون إيجارات المساكن ليستكمل هذه المسيرة الظافرة لتسليع العقارات على حساب أغلبية واسعة من المواطنين، وعلى النقيض مما يدعو له اقتصاد السوق من اقتصار الدولة على وضع القواعد الميسرة لنشاط السوق دون أن تدخل هى فيه منتهكة حقوق المواطنين، وخصوصًا محدودى الدخل من بينهم.

‎خطورة مسيرة التسليع

‎إن خطورة هذه الخطوات الواسعة على طريق تسليع العقار - سواء كان أرضًا زراعية أو صحراوية أو فضاءً عامًا فى المدن - أنها تعمق الطبيعة الريعية للاقتصاد المصرى، فيصبح معتمدًا على أنشطة لا توسع من طاقته الإنتاجية، وهى على هذا النحو لا تحل أزمته الناجمة عن كونه اقتصادًا لا يولد من خلال الصادرات ما يكفى لسد احتياجاته من الواردات الغذائية والدوائية والتكنولوجية. كما أنها تبعده عن طريق التنمية الصحيحة المتوازنة، التى تقوم على نمو قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية. وهى تستلهم تفسيرًا مغلوطًا لتعظيم أصول الدولة؛ فأصول الدولة الحقيقية ليست فى الأراضى والمبانى، وإنما فى مواطنيها الذين تتعاظم قيمتهم عندما يتلقون تعليمًا وتدريبًا عالى المستوى ويتمتعون بالكرامة التى تتحقق مع احترام حقوقهم الأساسية فى الحرية والمساواة.

 

‎أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة