x قد يعجبك أيضا

الاحتلال وأوهام الأمن والرخاء.. المقاومة ليست خيارًا بل نتيجة

الأحد 6 أبريل 2025 - 5:35 م

التظاهرات التى شهدتها غزة والضفة الغربية فى الآونة الأخيرة والتى تطالب بإيقاف المذابح الإسرائيلية مقابل خروج حماس والمقاومة من الصورة، تعكس حالة احتقان متصاعدة فى الداخل الفلسطينى فى ظل تعقيدات فى المشهد من الصعب اختزاله فى عنصر واحد من عناصر الأزمة الراهنة، حيث تتداخل الأزمة السياسية مع الأوضاع المعيشية القاسية والتحديات الأمنية المستمرة.
بعيدًا عن ثنائية التأييد أو التخوين، فإن هذه التحركات تعبّر عن مأزق أعمق يواجه المشروع الوطنى الفلسطينى ككل، فى ظل انسداد الأفق السياسى وتراجع الثقة فى القيادات والفصائل. فى ظل الاحتلال والحصار والانقسام الداخلى، تصبح أى احتجاجات مؤشرًا على الحاجة إلى مراجعة شاملة للمسار السياسى وآلياته، بدلًا من التعامل معها كحدث معزول أو مجرّد تعبير عن موقف لحظى. لكن هل مشهد هذه التظاهرات جديد فى منطقتنا، ألم نشهده من قبل أمام نفس الاحتلال؟
•••
فى السادس من يونيو 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان تحت شعار «سلامة الجليل»، بذريعة القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وتأمين حدودها الشمالية. كان المشهد فى بعض المناطق الجنوبية ملتبسًا: دخول قوات الاحتلال تحت وابل من الملح والرز فى بعض القرى، فى مشهد استخدم لاحقًا للترويج لخطاب «الترحيب الشعبى» بالاحتلال. مع دخول الجيش الإسرائيلى بيروت فى أغسطس 1982، وتحقيقه ما بدا انتصارًا سياسيًا بإخراج الفصائل الفلسطينية المسلحة، ظن قادة تل أبيب أن وجودهم العسكرى سيترسخ.
لكن مشهد الترحاب لم يكن إلا لحظة عابرة سرعان ما تبخرت تحت وطأة القمع الإسرائيلى والمجازر التى رافقت الاجتياح. بعد أقل من ثلاثة أشهر، كان المزاج الشعبى قد انقلب، وخلال شهرين من ذلك بدأت العمليات. كانت مجزرة صبرا وشاتيلا فى سبتمبر 1982، التى نفذتها ميليشيات متحالفة مع الاحتلال، الشرارة التى فجّرت الموقف. لم تمر ساعات على وقوع المجزرة حتى خرج بيان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، ليعلن بدء المواجهة المسلحة ضد الاحتلال، فى لحظة أسست لتحول جذرى فى الجنوب اللبنانى. بدأت المقاومة بعمليات نوعية، أبرزها عملية الويمبى فى 24 سبتمبر 1982، حيث استهدف جنود الاحتلال فى شارع الحمرا، كإعلان عن سقوط وهم السيطرة الإسرائيلية على بيروت. سرعان ما انتقلت العمليات إلى الجنوب، حيث خاضت «جمول» والفصائل الوطنية سلسلة من المواجهات ضد الاحتلال، دشنتها عملية بصيدا فى نوفمبر 1982.
مع تصاعد عمليات المقاومة، ودخول أطراف جديدة لها، بدأت إسرائيل تدرك استحالة الاحتفاظ بوجودها العسكرى فى لبنان دون كلفة متزايدة. انسحبت من بيروت عام 1985، ثم تقلصت مناطق سيطرتها تدريجيًا فى الجنوب، حتى جاء الانسحاب النهائى فى 25 مايو 2000، دون قيد أو شرط، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلى.
منذ الاجتياح وحتى لحظة التحرير، لم يكن الجنوب مجرد ساحة حرب، بل كان مختبرًا للتحولات السياسية والاجتماعية فى لبنان. المقاومة لم تكن مجرد رد فعل على الاحتلال، بل تعبيرًا عن تحول فى الوعى الشعبى والسياسى، حيث انتقلت فئات واسعة من حالة المهادنة أو الحياد إلى المواجهة المباشرة. فى هذا السياق، يمكن القول إن تجربة المقاومة فى لبنان أعادت تعريف مفهوم الصراع، ليس فقط باعتباره مواجهة عسكرية، بل باعتباره معركة على الوعى والخطاب.
•••
بالرجوع تاريخيًا، نجد أن الوضع فى سيناء بعد يونيو 1967 كان له أوجه تشابه مع الجنوب اللبنانى بعد 1982، من حيث تحوّل المشهد من حالة ارتباك وربما ترحيب محدود من البعض إلى مقاومة نشطة أنهكت الاحتلال. رغم الفروق فى السياق السياسى والاجتماعى لكل حالة. فبعد هزيمة يونيو 1967، تقدمت القوات الإسرائيلية بسرعة هائلة داخل سيناء، فى ظل انسحاب فوضوى للقوات المصرية. هذه السرعة فى الاجتياح جعلت البعض يتعامل بحذر مع الاحتلال، خاصة مع محاولات إسرائيل تقديم نفسها كـ«قوة أمر واقع» يمكن التعايش معها، وهى نفس المحاولة التى قامت بها فى جنوب لبنان لاحقًا.
لكن بعد وقت قليل، ومع اتضاح نوايا الاحتلال الإسرائيلى فى الاستيطان وفرض سيطرة أمنية مشددة، بدأت عمليات المقاومة تظهر، تمامًا كما حدث فى لبنان بعد 1982. من أهم المجموعات التى نشأت فى هذه الفترة منظمة سيناء العربية (1968)، التى تعاونت مع جهاز المخابرات الحربية المصرية، ونسق فيها مع عناصر من البدو لتنفيذ عمليات خلف خطوط العدو. أى تشكلت بعد حوالى ستة أشهر فقط من الحالة التى صاحبت دخول قوات الاحتلال.
•••
أما فى الجولان المحتل عام 1967، فقد شهدنا نمطًا مشابهًا لتحول الموقف من الترقب أو القبول المرحلى إلى مقاومة نشطة ضد الاحتلال الإسرائيلى. فى البداية، كان هناك ارتباك نتيجة الاحتلال المفاجئ، كما حاولت إسرائيل استمالة السكان من خلال منحهم مزايا اقتصادية ووعودًا بمنحهم الهوية الإسرائيلية. لكن أولى عمليات المقاومة المسلحة لم تتأخر، فبعد شهور قليلة من الاحتلال، نفذت مجموعة فدائية فلسطينية تابعة لحركة فتح عملية الحمة فى جنوب الجولان، مستهدفة قوات الاحتلال الإسرائيلى. وبعد أقل من عام، نفذت الجبهة الشعبية عدة عمليات ضد مواقع الاحتلال فى الجولان. لاحقًا، حاول الاحتلال فرض الجنسية الإسرائيلية على السكان عام 1981، لكن الرفض الشعبى كان واضحًا، وتجلى ذلك فى انتفاضة الجولان عام 1982، حين أعلن الدروز إضرابًا عامًا استمر ستة أشهر رفضًا لقرار الضم وفرض الجنسية.
•••
سواء فى سيناء أو الجولان بعد 1967 أو جنوب لبنان بعد 1982، بدأ الاحتلال بمشاهد ترحيب محدود جدًا أو تكيف مرحلى من بعض السكان، لكنه لم يكن إلا محطة عابرة. فى البداية، كان هناك ارتباك ناتج عن الانسحاب السريع للقوات النظامية، ما جعل بعض الفئات المحلية تتعامل بحذر أو حتى بقبول اضطرارى مع الاحتلال، سواء خوفًا أو تحت تأثير الدعاية التى قدّمت الاحتلال كضامن للاستقرار. لكن مع مرور الوقت، تكشّفت نواياه، وزيف ادعاءاته حول السلام والأمن والرخاء، ويبدأ السكان يدركون أن الاحتلال ليس قوة عابرة بل مشروعًا استعماريًا طويل المدى. هذا الوعى التدريجى يقود إلى رفض متزايد، سرعان ما يتحول إلى مقاومة، مقاومة يمكن أن تكون لها مرجعيات وتوجهات مختلفة بل متباينة، تبدأ عفوية، ثم تتطور إلى حركات منظمة تفرض معادلات جديدة على الأرض.
إن أى حالة احتلال، مهما بدا الأمر فى بدايته مرتبكًا، أو حتى مقبولًا فى بعض الأوساط، تصطدم عاجلًا أم آجلًا بإرادة الشعوب فى تقرير مصيرها.
فى فلسطين، كما فى لبنان وسيناء والجولان من قبل، أثبتت التجربة أن الاحتلال، مهما حاول أن يعيد إنتاج نفسه عبر أدوات الترغيب، يظل احتلالًا له أطماع لا يجد أمامه سوى القمع والبطش كأداة لإحكام سيطرته على أرض وبشر رافضين له. وما نراه اليوم فى غزة والضفة ليس إلا امتدادًا لهذه القاعدة، فالتظاهرات وإن كانت تحمل مطالب حياتية وسياسية آنية، إلا أن للمستقبل القريب دائمًا قولًا آخر. يحق للشعب الفلسطينى أن يختار مساره بنفسه، وعلينا واجب أن نذكرهم بالتاريخ حتى لا يقعوا فى نفس الفخاخ التى وقع فيها الآخرون.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة