حالة جديدة فى الشرق الأوسط

الإثنين 7 أبريل 2025 - 6:40 م

 

عوامل متعددة وأحداث صاخبة أدت إلى تغييرات جذرية وتحولات واضحة فى الهيكل العام للبنية الجيوسياسية فى الشرق الأوسط، فأصبحنا بحق أمام حالة جديدة ما زالت الثوابت فيها جامدة، لكن التحولات ظاهرة أيضًا، نناقش فى هذه السطور أهم الأحداث المؤثرة على أسعار بورصة الدول وفقًا لما جرى ويجرى فى الشهور الماضية إذ إن أحداث غزة ولبنان وبعدهما سوريا وتأثير الأوضاع فى كل منهم على تركيا وإيران هى كلها مؤشرات كاشفة حول التعقيدات التى تحيط بالشرق الأوسط والمشرق العربى وصولًا إلى تخوم غرب آسيا، فقد تغيرت المعايير وتبدلت الموازين ودخلت القضية العربية الأولى -وهى القضية الفلسطينية المرتبطة بالصراع فى الشرق الأوسط- إلى نفقٍ طويل يوحى بأننا فى البدايات رغم أن الكثيرين يتوهمون أننا فى النهايات، وفى ظنى أن الأمر يقتضى عند دراسة الخريطة السياسة للمنطقة أن نضع الاعتبارات الآتية فى الحسبان:

أولًا: لا يمكن دراسة ما جرى وما يجرى دون ربطه بالجذور التاريخية لمحورين كبيرين، أولهما الحركة الصهيونية والتبشير بميلاد الدولة اليهودية، وثانيهما تأمل الانطلاق التاريخى لحركة الإسلام السياسى وتأثيرها على ضوء الأحداث التى جرت منذ السابع من أكتوبر 2023، إذ إن القراءة الموضوعية لما جرى تؤكد أن الهوة واسعة بين أطراف الصراع بدليل أننا نحلم بحدود 67، ونتطلع إلى الوضع فى غزة قبل 2023 ونكتشف فورًا أن مؤشرات البورصة فى تراجع واضح بالنسبة للوضع العربى، ولا شك أن الأمة العربية بأوضاعها الحالية تمر بواحدة من أصعب المراحل فى تاريخها الحديث حتى إن حدود بعض دولها مهددة ووجود البعض الآخر موضع أطماع لقوى شريرة رأت أن الظروف مواتية لإحداث تغييرات كبرى فى المنطقة يكون من نتائجها تصفية القضية الفلسطينية أو تحويل عناصرها إلى ملفات إدارية لا تخضع لمستوى سياسات الإقليم، وإذا كنا نتباكى على الفرص الضائعة فى الماضى البعيد والقريب أيضًا فإننا يجب أن نعترف بأن كثيرًا من المواقف العربية قد انطلقت من دوافع عاطفية أو ظروف مرحلية لا تعطى ذلك القدر المطلوب الذى يكفل الحد الأدنى للمحافظة على الثوابت العربية، فازدادت إسرائيل شراسة وازدادت تركيا أطماعًا وازدادت إيران غموضًا حتى أصبحنا أمام تركيبة معقدة لا يسهل فك رموزها.

ثانيًا: إن اختلال الظروف التاريخية بالأسباب السياسية والدوافع الدينية تجعل القضية أكثر تعقيدًا، بحيث لا يمكن تصنيف مواقف الدول بشكل حدى التوصيف قطعى الدلالة فالدولة (أ) مع الدولة (ب) فى قضية معينة، لكنها قد تكون على النقيض منها تمامًا فى قضية أخرى، فلم يعد الاتفاق أو الخلاف تعبيرًا عن التحالف السياسى أو انسجام المواقف الإقليمية، ثم جاء الطوفان الأمريكى الذى يحمله من جديد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى يتعامل مع الخريطة الدولية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من سلطاته المفتوحة وهيمنته المطلقة ويوحى بأنه يعيد رسم خريطة العالم ويهز التحالف التقليدى بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ويفتح ملفات تحتوى على أطماع أمريكية فى دول أخرى، والعالم يرقب ما يحدث فى دهشة واضحة وقلق شديد. بل إن الداخل الأمريكى ذاته لم يخلُ من القلق السائد والتوقعات المتشائمة، ذلك أن الإدارة الأمريكية الجديدة تسعى إلى تحسين العلاقات مع روسيا الاتحادية وربما الصين وكوريا الشمالية أيضًا وذلك على حساب التحالف التقليدى الذى ربط واشنطن بغرب أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى يدهش المرء متسائلًا: أين مبادئ الرئيس الأمريكى ويلسون المتألقة بالحرية وحقوق الإنسان؟ والتى برزت بعد الحرب العالمية الأولى ولم يعد لها حاليًا وجودًا يُذكر، فقد تغيرت أمريكا وتطورت أوروبا وتحولت السياسات العالمية من ثنائية الأطراف إلى أحادية الأقطاب.

ثالثًا: لقد كشفت الأحداث الأخيرة فى الشرق الأوسط عن ذبذبات قوية فى بورصة الدول وأسعارها فلقد خرجت إيران خاسرة إلى حدٍ كبير بدءًا من إضعاف حزب الله حليفها القوى فى المنطقة العربية مرورًا بما جرى فى سوريا والذى يكاد يكون طوفانًا آخر أو زلزالًا هز المنطقة كلها على غير توقع بسقوط النظام الحليف لطهران وبروز قيادات جديدة يحفل تاريخها بمنعطفات تستحق التأمل وتستدعى التفكير، بالإضافة إلى أن إضعاف حركة حماس يعنى مباشرة تأثيرًا سلبيًا على الوجود الإيرانى أيضًا ربما بدرجة أقل من تراجع حزب الله، لكنها إخفاق للسياسة الإيرانية فى العقود الخمس الأخيرة، أما تركيا على الجانب الآخر فهى لاعب متحرك فى حدوده مع سوريا والعراق وغيرهما من مواقع احتشاد الميليشيات ذات التوجهات المختلفة فإننا نزعم أن الاستقرار لن يكون قريبًا فى ذلك البلد الآسيوى الأوروبى الهام نتيجة التداخلات المعقدة فى التركيبة السياسية هناك. وتطل علينا بين حين وآخر تحولات فى سياسة أردوغان تبدو انعكاسًا تلقائيًا للأوضاع الداخلية فى بلده الأوروبى الآسيوى الشرق أوسطى المسلم صاحب العلاقات ذات الخصوصية مع واشنطن فضلًا عن كونه عضوًا فى حلف الأطلنطى، وبقدر سعادة أنقرة بما جرى فى دمشق إلا أنها لا تستطيع حتى الآن اتخاذ موقف قاطع فى علاقاتها مع الأكراد والأقليات غير العربية فى المنطقة، فضلًا عن الميليشيات التى دعمتها تركيا من قبل واكتوت ببعض نيرانها فيما بعد.

إننا نسجل هنا أن إسرائيل هى الرابح الأكبر لكل جرائمها العنصرية والعدوانية ونزعم أنها حاولت انتهاز نتائج السابع من أكتوبر 2023 بمثل ما حاولت واشنطن استثمار أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 عندما اتخذت الولايات المتحدة من تلك الأحداث الأمريكية مبررًا للعبث فى خريطة المنطقة والتقليب فى أوزان الدول على مسرح الأحداث، وهو نفس ما يجرى حاليًا من محاولات توظيف ما جرى لخدمة أهداف الدولة العبرية ومواصلتها الخروقات الفاضحة للقانون الدولى وحقوق الإنسان فضلًا عن غياب القدرة على التفاهم المشترك، فقد فقدت إسرائيل – رغم أنها رابح واضح – قدرًا كبيرًا من حلفائها وأصدقائها فى العالم وفى المنطقة التى تعيش فيها وتتطلع للبقاء وسط شعوبها، إذ تيقن الجميع أن إسرائيل لن تكون أبدًا عضوًا مقبولًا فى الشرق الأوسط خصوصًا بعد جرائمها فى قتل الأطفال والنساء والمدنيين دون مبرر لكن لسبب واضح لا يخفى على أحد، وهو رغبتها فى إخلاء الأراضى الفلسطينية لكى تكون موطنًا جديدًا لحشد يهودى قادم إلى الأراضى العربية على حساب شعوبها وعلى مسمع ومرأى من العالم كله.

رابعًا: لم تعد المسألة خلافًا على حدود ولكنها أضحت صراعًا على وجود، فقد كشفت إسرائيل بوضوح عن المخطط الصهيونى الذى تمضى فيه وفقًا لمشروع يمتد عمره لما يقرب من قرن ونصف من الزمان وإسرائيل تقوم بعملية إعداد لما يمكن تسميته بالتمكين لدولة صهيونية عنصرية تكرس خطاب الكراهية وتضرب التعايش المشترك فى المنطقة لصالح أهوائها ومخططاتها الخبيثة فى ظل ظروف دولية مواتية، خصوصًا وأن إدارة ترامب الأمريكية هى أكثر إدارات الولايات المتحدة الأمريكية تطرفًا فى دعمها لإسرائيل حتى يكاد نتنياهو -رئيس وزراء الدولة العبرية- وكأنما أصبح رئيسًا لوزراء الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا إذا جاز ذلك التوصيف الذى لا وجود حقيقيا له، ولكنه تأكيد على سطوة الليكود الإسرائيلى واليمين المتطرف والموقف المتشدد الذى يلعبه حكام تل أبيب على نحو لم نشهد له نظيرًا من قبل حتى أصبحت القضية هى عدوان إسرائيلى أمريكى على شعب فلسطينى أعزل كل جريمته أنه يرفض الاحتلال ويسعى للتعايش المشترك وفقًا لقواعد العدالة الدولية وحقوق الإنسان، فضلًا عن الشرعية التى يجب أن تلتزم بها الدول مهما كانت الأحلام والأوهام والمغامرات العسكرية والمخططات الصهيونية.

نقول فى النهاية إنه لن يصح إلا الصحيح، وسوف تثبت أسعار بورصة الدول كل هذه الحقائق ذات يوم.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة