كبيرة هى التحوّلات التى يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، لكن أكبرها على الإطلاق هو ذلك التحوّل الأخير الذى أصاب الرئيس الأمريكى «ترامب» نصيبًا منه، عندما بدأ يتخذ من القرارات والسياسات ما وضع التصريحات ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعى وبعض الوعود الانتخابية الانفعالية موضع الجد والتنفيذ.
الولايات المتحدة التى سطرت تاريخها القيادى بمداد من الصوابية السياسية، وصنعت تفرّدها الاقتصادى بإعلاء مبادئ تحرير التجارة وحرية حركة الأموال والأفراد، هى التى تعلن اليوم نكوصها «الهيسيرى» عن جوهر تلك المبادئ، بدعوى أنها لم تحقق المصالح الأمريكية، ولم تعزز من رفاهية المواطن الأمريكى، وأنها تسببت فى أن تتعرض الولايات المتحدة للسرقة من شركائها التجاريين عبر عقود! بلطجى العالم الذى يبسط سيطرته على الجميع، يعيد تشكيل الأقاليم والتحالفات، يفرض العقوبات، يشهد على التزام الأطراف المتنازعة بالمعاهدات والقرارات الدولية، ويعطّل قرارات دولية أخرى بحق الاعتراض فى مجلس الأمن.. تتلبّسه بين عشية وضحاها شخصية بهلول القرية (تذكر أن العولمة حوّلت العالم إلى قرية) الذى يأتى أفعالًا لا يفهمها الأصدقاء قبل الخصوم، يثير حالة من التخبّط وعدم اليقين فى محاولة ربما لجعل النظام العالمى فى حالة سيولة بقصد إعادة تشكيله فى قالب جديد.
وإذا كانت لتلك القرارات آثار سلبية مباشرة على معدلات التضخم فى الولايات المتحدة، نتيجة لتشوّهات الأسعار بفعل الرسوم الجمركية، وسوء تخصيص الموارد الناشئة عن حماية المنتج المحلى الأقل جودة وكفاءة، فإن ارتدادات تلك القرارات على سياسات الدول الخاصة بتوطين الإنتاج وسلاسل الإمداد، وعلى حركة تدفقات رءوس الأموال والبضائع، وعلى تكلفة الديون وفروق الائتمان، وعلى مؤشرات بورصات الأوراق المالية والسلع والخدمات والعملات، بل وعلى السياسات التجارية الانتقامية والاحترازية من قبل سائر دول العالم.. ستكون شديدة العنف والارتباك، خاصة مع بلوغ درجة عدم اليقين فى الأسواق مستويات مرتفعة للغاية.
الرهان الأمريكى على أن يتم تعقيم أثر التعريفات عبر آلية تغير سعر الصرف (دولار أقوى نسبيًا) تحده عوامل كثيرة تؤثر فى حركة الدولار بعيدا عن آلية عمل التجارة الخارجية، منها على سبيل دوره كمكون فى الاحتياطيات العالمية بما يقرب من 60% على الأقل (ترتفع إذا أخذ فى الاعتبار الاحتياطات لدى المؤسسات شبه الحكومية والخاصة)، هذا الدور المهم كعملة الاحتياطى العالمى تجعل الاقتصاد الأمريكى فى حالة عجز خارجى وداخلى مستمر، وتجعل الدولار أقل مرونة لحركة التجارة، إذ يرتفع الطلب عليه بشكل كبير عند انخفاض قيمته، لكنه دور يمنح الولايات المتحدة وفورات جانبية من القوة والمرونة والقدرة على الاقتراض بعائد منخفض نسبيًا ومستقر، والسيطرة على حركة التجارة وتدفقات الأموال.
•••
الإدارة الأمريكية تواجه فى سياساتها الحالية عددًا من المعضلات، بينما ينتظر العالم عدة توابع لزلزال الجمارك الترامبية الجديدة..
المعضلة الأولى: كيف تقنع العالم بأن مخالفتك للمبادئ التى أسست عليها تفرّدك الاقتصادى، هى ذاتها ملاذك الوحيد للاستمرار فى هذا التفرّد وشغل موقع القيادة؟! يرتبط بتلك المعضلة قدرة مؤسستى «بريتون وودز» (صندوق النقد والبنك الدوليين) على بسط مبادئ «إجماع واشنطن»، المؤسسة - فى أهم جوانبها - على تحرير التجارة، إلى مختلف الدول المستعينة بالمؤسستين.
المعضلة الثانية: تكمن فى كيف تضع سياسات تجارية هدفها التخلص من العجز الخارجى، بينما تستخدم عملتك (الدولار) كعملة احتياطى، ومن ثم يظل هذا العجز المزمن قرين ممارستك للهيمنة النقدية والمالية والتجارية، علمًا بأنه لن يتسنى لتوازنات التجارة -وحدها- أن تحقق لك ميزة نسبية فى قيمة العملة لزيادة جاذبية صادراتك.
المعضلة الثالثة: مناطها، أن الرهان على أن الضرائب الجمركية تجعل شركاء التجارة «مضطرين» إلى السعى نحو التفاوض، هو رهان محفوف بالمخاطر، وقد أثبتت التجربة فشل هذه المناورة مع كندا والصين والمكسيك.. ولا أستبعد أن يكون هذا التحرك الأحادى مستفزًا لسائر الشركاء (حتى البطاريق فى جزيرتهم النائية الخاضعة لعقوبات ترامب!) ومستنفرًا لهم لفرض تعريفات مضادة، بما يدعو إلى الدخول فى حلقة مفرغة من تقييد التجارة، وموجات مرعبة من التضخم وسوء كفاءة تخصيص الموارد.
المعضلة الرابعة: تكمن فى انهيارات أسواق المال والسلع، واتساع فروق الائتمان، وزيادة حالة عدم اليقين.. نتيجة تلك القرارات، بما يضرب مواطن القوة الرئيسة فى جسم الاقتصاد الأمريكى، ويجعل الرهان على تحقيق مكاسب طويلة ومتوسطة الأجل رهانا خاسرًا، أشبه بانتظار ملاكم مغمور لبطل العالم أن يسدد له مائة ضربة، حتى يقوم بعدها ويقتص منه!
• • •
أما عن تبعات هذا الزلزال من موجات تضخمية وارتباك حركة تجارة وتدفقات رءوس أموال، وتفاقم أزمة الدين وارتفاع تكلفة الأموال.. فيتوقف مداها وحجم تأثيرها على عدة أمور:
أولًا: إلى أى مدى يستمر هذا التيه الاقتصادى؟ فلو أن الولايات المتحدة انتفضت من سباتها وصححت أوضاعها وسياساتها كما فعلت من قبل فى أكثر من واقعة تاريخية، ليس بالضرورة بذات الطريقة العنيفة التى تعرض لها الرئيس الجمهورى ماكنلى عام ١٩٠١، لكن بطريقة سلمية بالطبع، كلما كان الاضطراب العالمى أقل انتشارًا وأضعف أثرًا. أما إذا طال أمد التيه الاقتصادى، فإن الوفورات السلبية ستكون أعمق أثرًا وأوسع انتشارًا وأطول بقاءً.
ثانيًا: إلى أى مدى تكون استجابة الاقتصادات الكبرى مثل الصين والاتحاد الأوروبى والهند واليابان معقّمة لأثر تلك الصدمات الأمريكية أو مفاقمة لها؟
ثالثًا: هل تنشأ عن حالة السيولة الاقتصادية (المقصودة أمريكيًا) معادلة توازن اقتصادى جديدة مستدامة أم هشة؟
رابعًا: هل تشعل تلك الحرب التجارية حربًا أكثر عنفًا كما يخبرنا التاريخ؟ عندها يلملم الاقتصاديون أوراقهم وتتقدم الآلات الغاشمة للواجهة.
•••
الأثر المتوقع على الاقتصاد الأمريكى فى الأجل القصير سلبى بامتياز، خاصة ما يتعلق بارتفاع معدلات التضخم، وتضرر رفاهية المستهلك.. أما الرهان على الأثر الأطول أجلًا فلابد أن يضع فى الاعتبار احتمالات تحوّل التجارة، واضطراب سلاسل الإمداد، وسياسات توطين الصناعات من قبل مختلف الأطراف، والتى ربما تصب جميعًا فى اتجاه سلبى بالنسبة للاقتصاد الأمريكى.. ردود الفعل سوف تتجاوز سياسات تجارية انتقامية، وإنما تأثيرات حادة على تدفقات رءوس الأموال ومؤشرات البورصات وسلاسل التوريد وتكلفة الدين.. ناهيك عن الآثار الأكثر عدائية والتى لا يعمل الاقتصاد فيها منفردًا.
أما عن إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فدوله فى حالة عجز تجارى مزمن مع الولايات المتحدة، بلغ فى عام ٢٠٢٤ ما يقرب من ٢٠ مليار دولار؛ ومن ثم فإن خضوع تلك الدول لضريبة جمركية قد تؤدى إلى تعريفات انتقامية مماثلة، أو تدفع إلى تحوّل التجارة عن الولايات المتحدة ولو جزئيًا، من شأنه أن يضر بدولة الفائض التجارى (الولايات المتحدة). أما الخضوع لضريبة الحد الأدنى ١٠٪ كما هى حال معظم الدول العربية فهو يعطى ميزة تنافسية إلى حد ما لتلك الدول، لكنه على أية حال يرفع الأسعار على المستهلك الأمريكى، ويعزز من فرص تحوّل التجارة العربية مشفوعة بعوامل متجذّرة، أبرزها ارتفاع تكاليف النقل والحفظ والتخزين نتيجة للبعد الجغرافى للعالم الجديد.
أما بالنسبة لمصر، فأظن أننا سنعانى فى الأجل القصير من حال الارتباك الاقتصادى العالمى، إذا ما تأثرت قدرتنا على تأمين احتياجاتنا الأساسية من مواد الطاقة والسلع الاستراتيجية، جرّاء اضطراب سلاسل الإمداد وحركة التجارة وارتفاع تكاليف تأمينها.. لكن تكوين التحالفات الصحيحة يمكن أن يعزز من فرص مصر فى إعادة توطين صناعاتها، وبناء أكثر من مستوى تأمين للإمدادات من مصادر صديقة فى مدى متوسط..
موجات التضخم المتوقعة، قد يحد من قسوتها انخفاض توقعات النمو، وما نتج عنه من تراجع عنيف فى أسعار النفط. لكن تضرر الاقتصادات النفطية ليس صحيًا لمصر، إذ تعمل على جذب جانب من فوائض تلك الاقتصادات فى صورة استثمارات مباشرة لرأب فجوتى الموارد والادخار.