x قد يعجبك أيضا

يالطا الثانية

الإثنين 7 أبريل 2025 - 6:40 م

بينما كانت الحرب الكونية الثانية توشك أن تضع أوزارها، احتضنت مدينة يالطا، بجزيرة القرم، فى فبراير 1945، قمة ثلاثية جمعت: الرئيس الأمريكى، فرانكلين روزفلت، رئيس الوزراء البريطانى، تشرشل، والزعيم السوفييتى، ستالين. فبعدما لاحت إرهاصات انتصارهم، على الجبهة الأوروبية؛ التأم ثلاثتهم للتباحث بشأن مسارات الحرب على الجبهة اليابانية، ومآلات النظام الدولى فى عقبها. ولما كانت الشكوك تساور واشنطن وحلفاءها الغربيين بشأن إمكانية تحقيق انتصار مماثل ووشيك فى ميادين المحيط الهادى؛ تراءت لهم الضرورة الاستراتيجية الملحة لمشاركة الجيش الأحمر السوفييتى فى تلك الميادين.

توخيا لتلك الغاية، أقر روزفلت تطلعات ستالين الاستراتيجية فى أوروبا وشرق آسيا. فإبان مباحثات يالطا؛ اتفق ثلاثتهم على مشاركة الجيش الأحمر فى مسرح عمليات المحيط الهادى، مقابل منح السوفييت، عقب استسلام اليابان، مجال نفوذ فى منشوريا. يتضمن: الجزء الجنوبى من سخالين، عقد إيجار فى بورت آرثر (لوشونكو حاليًا)، حصة فى تشغيل خطوط السكك الحديدية المنشورية، جزر الكوريل، وميناءين استراتيجيين. وأن يسترد الاتحاد السوفييتى جميع الأراضى والامتيازات، التى خسرتها الإمبراطورية الروسية، إثر هزيمتها أمام اليابان فى حرب العام 1905. فضلا عن إرغام ألمانيا على تسليم الاتحاد السوفييتى معدات ومصادر ثروات، حتى يتسنى له تعويض خسائره الهائلة أثناء المواجهات الدامية على الجبهة الأوروبية. وبخصوص الحدود البولندية - السوفييتية، تمخضت المباحثات الثلاثية عن اعتراف قادة الحلفاء بالسيطرة السوفييتية على الأراضى الواقعة شرق حدود عام 1939.

رغم هواجسهم إزاء طموحات ستالين الجيوسياسية بشرق أوروبا وقتذاك؛ اعتبر الحلفاء المغانم الاستراتيجية التى انتزعها، إبان مؤتمرى طهران 1943 ويالطا 1945، ثمنا لانخراط الجيش الأحمر فى الحرب لدحر اليابان. فخلال الأشهر الأخيرة للحرب، استشرف تشرشل المرتاب من اختلال التوازن الاستراتيجى بالقارة العجوز لصالح موسكو، بعد انهيار القوة الألمانية؛ مخاطر طموحات ستالين للهيمنة على بلدان أوروبا الشرقية والوسطى. لذلك، طفق يلح فى المطالبة بإشراك فرنسا فى المباحثات. بالمقابل، كان روزفلت المهووس بحرب غير مضمونة العواقب فى المحيط الهادئ ضد الإمبراطورية اليابانية، يتطلع إلى حث ستالين على التخارج من معاهدة «عدم الاعتداء السوفييتية - اليابانية»، الموقعة فى إبريل 1941.

أما اليوم، فيتبنى ترامب نهجا مشابها حيال بوتين الذى يمضى بدأب لاستعادة مكانة روسيا كقوة عظمى تنشد قمة النظام العالمى. فخلافا لاستعداء التحالف الأوروأطلسى لموسكو؛ حتى أنه لم يتورع عن تزويد أوكرانيا، بالدعم العسكرى والاستخباراتى؛ لوح ترامب بمنح نظيره الروسى مكافآت جيوسياسية بأوكرانيا مقابل إنهاء الحرب. حيث تطالب موسكو اليوم بضمانات أمنية صارمة أبرزها: تأكيد استدامة الوضع المحايد لأوكرانيا، عدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسى، واستبعاد إمكانية نشر قوات أجنبية على أراضيها. فضلا عن استبقاء سيطرة موسكو على الأراضى الأوكرانية الحيوية التى احتلتها.

مطلع سبعينيات القرن المنصرم، انبرى وزير الخارجية الأمريكى حينها، هنرى كيسنجر، فى إنهاء قطيعة بلاده مع الصين. مبتغيا استمالتها، توطئة لإبعادها عن الاتحاد السوفييتى، ومنعهما من الانخراط معه فى أى تحالف استراتيجى. أما اليوم، فتسعى واشنطن إلى خفض التصعيد وتهدئة التوترات مع روسيا، لكبح جماح تقاربها الاستراتيجى متسارع الوتيرة مع الصين، منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014. حيث ينتوى ترامب إنهاء الحرب المحتدمة بين موسكو وكييف، منذ فبراير2022، وفق صيغة تلبى تطلعات بوتين الأمنية. فى حين تتعاظم مخاوف الدول الأوروبية من تفاقم الطموحات الاستراتيجية الروسية؛ بينما لا يبدو التحالف الأوروأطلسى فى أحسن أحواله.

خلافا لما كان عليه الحال فى زمن الحرب الباردة. حينما كان الاتحاد السوفييتى هو المنافس الأخطر والوحيد، للولايات المتحدة، تتصدر الصين، وليس روسيا، قائمة التحديات والأخطار، التى تتربص بواشنطن. فعلاوة على ما أقرته الاستراتيجية الأمريكية الراهنة للأمن القومى بهذا المضمار، أكد تقييم سنوى لأجهزة الاستخبارات الأمريكية بشأن التهديدات المحتملة، فى 25 مارس الماضى، أن الصين تشكل أكبر تهديد عسكرى وسيبرانى للولايات المتحدة. وفى أول تقويم عام للتهديدات العالمية خلال فترة ولاية ترامب الثانية، اعتبرت وكالة الاستخبارات الوطنية ووكالة الاستخبارات المركزية روسيا خصما آنيا وشريكا مستقبليا. أما ويتكوف فشكك فى المخاوف الأوروبية من انتهاك روسيا وقفا لإطلاق النار بأوكرانيا. رافضا تبنى مقاربة، تشرشل، بشأن تطلع موسكو للهيمنة على أوروبا. معتبرا إياها منافية للعقل، كون بوتين لا ينشد أصلا الاستيلاء على كامل أوكرانيا.

من هذا المنطلق، تبدو المفاوضات الأمريكية - الروسية، التى تستضيفها السعودية هذه الأيام، أقرب إلى «يالطا جديدة»، تنشد استرضاء روسيا، واستمالتها؛ بقصد لجم انفتاحها الاستراتيجى حيال الصين.  والذى وفّر لموسكو غطاءً اقتصاديا وسياسيا لتحييد العقوبات الغربية؛ بينما أتاح لبكين تعزيز وضعها التنافسى إزاء واشنطن. حيث ترنو إدارة ترامب إلى تهدئة الأوضاع فى أوروبا والشرق الأوسط، تمهيدا لإعادة توجيه تركيزها وثقلها الاستراتيجيين إلى منطقة المحيطين الهندى والهادئ، تأهبا لمقارعة الصين.

كان كيسنجر مهندسا لإنهاء الجفاء الصينى - الأمريكى عام 1971، بقصد احتواء الاتحاد السوفييتى. وها هو يأبى، قبيل رحيله عام 2023، إلا أن يكون منظرا لتقارب روسى - أمريكى، يكبح جماح الصعود الصينى المزعج لكليهما. فمنذ الولاية الرئاسية الأولى لترامب، تسلط تقارير غربية الضوء على مقاربة كيسنجر بهذا الصدد؛ والتى يبدو أن إدارته قد تبنتها. إذ أكد وزير خارجيته روبيو فى فبراير الماضى التماس واشنطن السبل الكفيلة بلجم تطور العلاقات الروسية - الصينية، للحيلولة دون تحالف قوتين نوويتين ضد الولايات المتحدة؛ مع تقويض «مبادرة الحزام والطريق» الصينية.

باستثناء اتساع فجوة الثقة بين ضفتى الأطلسى، تتجلى التماثلات بين المشهد الجيوسياسى العالمى الراهن، ونظيره إبان نهاية الحرب العالمية الثانية. فعبر يالطا تعمد روزفلت، تشرشل، وستالين، إعادة ترسيم خارطة العالم، من خلال تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ فيما بينهم. أما اليوم، فتسعى واشنطن وموسكو إلى التفاوض حول نظام عالمى جديد، استنادا إلى المبدأ القديم القائل بأن «القوى يفعل ما يشاء والضعيف يعانى ما يجب عليه». ومثلما كان الحال عام 1945، تتوجس أوروبا اليوم خيفة من التقارب الأمريكى - الروسى الحالى. ففى ظل تأزم التحالف الأوروأطلسى، وتهديد ترامب بالتخلى عن الناتو، تستحضر أوروبا مخططات يالطا، لتقويض الهيمنة الأوروبية على العالم، توطئة لإرساء قطبية ثنائية أمريكية - روسية.

مثلما قادت بريطانيا التوجس الأوروبى حيال الاتحاد السوفييتى أثناء يالطا، تبدو اليوم كذلك تجاه روسيا. حيث ترى دوائر إنجليزية أن لندن التى تبتغى تعميق علاقاتها الاستراتيجية بأوروبا، وتعظيم دورها الداعم لأوكرانيا، أصبحت «العدو الأول» لروسيا .وبينما كان تشرشل ينتقد روزفلت ويتهمه بـ«تسليم» أوروبا الشرقية وشمال شرق آسيا، للاتحاد السوفييتى فى يالطا. يعكف، ماكرون وستارمر، اليوم، على اتهام ترامب بمحاباة بوتين على حساب أوكرانيا والأمن الأوروبى. فخلافا ليالطا، التى استتبعت إنشاء حلف الناتو، وتدشين شراكة أوروأطلسية صلبة، تلتزم واشنطن، بموجبها، الدفاع عن حلفائها الأوروبيين وتأمينهم بمظلتها النووية. تطرح مفاوضات تسوية الأزمة الأوكرانية بالسعودية، اليوم، أو «يالطا الثانية»، تساؤلات حول مصير تلك الشراكة، وموثوقية الحماية الأمريكية للحلفاء. ففيما لم تعد واشنطن ترى روسيا تهديدا بالقدر، الذى تستشعره أوروبا؛ تتسع فجوة الثقة بين ضفتى الأطلسى، على وقع: إصرار واشنطن على التفاوض المنفرد مع موسكو لتسوية الأزمة الأوكرانية، تصاعد تهديدات ترامب بتخلى بلاده عن قيادة الناتو، والتنصل من التزاماتها الأمنية حيال أوروبا. مع مواصلة الاستدارة الاستراتيجية الأمريكية نحو شرق آسيا.

يعتبر الأوروبيون مساعى ترامب لفرض تسوية مجحفة على أوكرانيا تدشينا لنظام عالمى يهمش أوروبا، ويكرس عدم التوازن فى العلاقات الدولية. كما يرون فى مساعيه لاسترضاء بوتين بقصد استمالته ومنعه من التحالف مع الصين؛ تشجيعا له على التمرد وتوسيع النفوذ، أسوة بهتلر قبل الحرب الكونية الثانية، وستالين على إثرها.

ردا على ما يعتبرونه حربا عدوانية هجينة؛ يشنها بوتين ضدهم ابتغاء تقسيم الاتحاد الأوروبى وإقصائه؛ واتهام زيلينسكى نظيره الروسى بتوظيف تقاربه مع ترامب لتقويض التحالف الأوروأطلسى. ينسق الأوروبيون مع الكنديين، لتحقيق الاستقلال الاستراتيجى عن واشنطن بحلول العام 2030. وضمن مقاربة استراتيجية تجمع بين واقعية تشرشل؛ واستقلالية ديجول، تم إطلاق مبادرات شتى لتطوير صناعات دفاعية أوروبية - كندية أكثر تكاملًا. مع بحث إمكانية التماس مظلة نووية بريطانية - فرنسية، بدلا من تلك الأمريكية. فيما يتوخى «تحالف الراغبين»: مواصلة الدعم العسكرى الأوروبى لأوكرانيا، مؤازرة موقفها التفاوضى، الحفاظ على وحدة أراضيها، دونما تنازلات غير منسَّقة، تأمين وقف إطلاق نار مستدام، وضمان أمنها فى قابل الأيام.

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة