أَكتُبُ فنا لا تاريخا! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 9:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أَكتُبُ فنا لا تاريخا!

نشر فى : الجمعة 18 يناير 2019 - 8:45 م | آخر تحديث : الجمعة 18 يناير 2019 - 8:45 م

على هامش «الخناقة» التى تدور رحاها الآن حول «رواية» صدرت أخيرا (أو هكذا كُتب على غلافها الخارجى)، واتخذها البعض تَكِئة لتصفية حسابات هنا أو تخليص انتقام هناك، وبغض النظر عن السذاجة والسطحية والمباشرة التى يتعامل بها البعض مع النصوص الأدبية (مهما كان مستواها)، ومحاكمة مضامينها لاستخلاص ما يؤيد (أو يعارض) وجهة نظر سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية.. إلخ، فإننى، هنا، وفى هذا المكان كتبتُ قبل عدة أسابيع مقالا بعنوان «عن الرواية والدعاية والأيديولوجيا»، سجلت فيه رأيى فى هذه النوعية من الروايات الدعائية الفجة التى تخلو تماما من الفن والقدرة الإبداعية والطلاقة الأدبية.
ولا أريد أن أعيد هنا ما سجلته بتفاصيله هناك، لكنى فقط أردتُ أن أنوه إلى أننى قدَمْتُ رأيا (ولم أُصدر حكما) فى روايةٍ اعتبرتها نموذجا دالا لغيرها من الروايات، ودون التصريح باسمها أو باسم ناشرها، وفقط للتأكيد على ضرورة قراءة النصوص الروائية بمنطق الفن ورحابة الأدب، لا بمنطق التقارير الأمنية ولا المحاكمات الأخلاقية أو التجريس السياسى أو غيرها من وسائل التشويه والتشهير!
كان الدافع وراء كتابة المقال المشار إليه إعلاناتٍ عن صدور روايات جديدة فى معرض الكتاب 2019.. كُتَابها من المغموسين تماما وحتى النخاع فى الأيديولوجيا القحة! لم يُعرف عنهم ولم يَصدر لهم ما يدل على تمتعهم بأى موهبة أدبية أو ما يشير إلى وجود ذائقة فنية من الأساس، إنهم فقط دخلوا إلى عالم الكتابة من باب الميديا والشهرة الدعائية التى نتجت عن السجال السياسى والمزايدات السياسية، فيما قبل سنواتٍ عدة من الآن!
هؤلاء بطبيعتهم لا يحترمون الإبداع ولا الفن، فضلا على أن يكونوا ممتلكين للذائقة المعرفية من الأساس! أنا لا أصادر على أحد لكنى فقط أتحدث من واقع البنية الذهنية التى تحكم هؤلاء (يستوى فى ذلك من كانت بنيته الذهنية المغلقة فى دائرة تيار دينى أم تيار سياسى أو اتجاه وعظى أخلاقى أو حتى نقيض ما سبق بالمنطق ذاته الذى يحكمها).
كيف يمكن لشخص أسير فكرٍ «واحدى» و«مطلق»، ومؤمن إيمانا جازما لا يتزعزع بضرورة فرض هذه «الرؤية»، وأن وجوده فى هذه الحياة عبارة عن صراعٍ يجب أن ينتصر فيه لتسييد هذه «الرؤية»، وبسطها على الجميع دون استثناء، العالم كله لديه سجين فكرة مسبقة، وتفسيرٍ واحد، ورؤية لا تحتمل الصواب والخطأ (بالنسبة له).
أقول كيف يمكن أن تُنتج مثل هذه البنية الذهنية «أدبا» أو «فنا» (بين قوسين؛ إبداعا؛ أى خروجا وانفتاحا وكسرا للنمطى والمألوف).. ما يحدث فى هذه الحالة هو العملية العكسية، ما لا نقدر على إنتاجه «نستلبه» ونوظفه نفعيا لمصلحتنا، فتصبح الرواية والقصة والمسرحية وسائل «إرشادية» تربوية أو مجرد حوامل فكرية لنشر الأيديولوجيا الدعوية أو فى مواجهة التيارات المختلفة والمناوئة فكريا.. إلخ
وأؤكد ــ مرة أخرى ــ أن المسألة فى تقديرى ليست مضمونا وشكلا (فهذه الثنائية المتعسفة تم تجاوزها فى أدبيات النقد الحديث منذ زمن بعيد.. فليس ثمة مضمون منفصلا عن الشكل ولا شكل حامل لمضمون!) هناك عمل فنى منسجم ومتكامل تتآزر عناصره وتتآلف مكوناته بفضل خصائص تشكيله وصياغته، وكل كاتب بحسب ثقافته، ووعيه، وفهمه، وإدراكه لحدود النوع الأدبى الذى يمارسه وقدرته على استيعاب التجارب الملهمة العظيمة السابقة عليه، لا لاحتذائها وتقليدها، بل لتجاوزها وتأسيس إبداع جديد ومغاير.
هذا ما أفهمه، وهذا رأيى وهو لا يلزم أحدا سواى.
«كلمتين وبس».
... «الثلاثية» ليست رواية تاريخية عن ثورة 1919، وإنما هى مجرد عمل فنى روائى تدور أحداثه فى تلك الفترة التى جرت فيها وقائع الثورة. ولذلك لم أتناول أحداثها بالتفصيل؛ لأن هذه مهمة المؤرخ وليس الروائى. لقد أسقطت أجزاء مهمة من أحداث الثورة وتخطيتها، لأن اهتمامى الأول كان بالخيط الروائى وليس التاريخى. ولكن هذا لا يمنع أن الثورة كانت من العوامل الرئيسية المؤثرة فى الأحداث، ولا يمنع كذلك من أننى تعرضت لها من وجهة نظر شخصيات الرواية. وبغض النظر عن انتمائى لثورة 1919 وإيمانى بها، فإننى كنت أضع نصب عينى طوال الوقت أننى أديب وروائى أكتب فنا لا تاريخا..».
(مذكرات نجيب محفوظ، رجاء النقاش، دار الشروق).