الإملاء فى شارع الشانزليزيه - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإملاء فى شارع الشانزليزيه

نشر فى : الخميس 8 يونيو 2023 - 7:05 م | آخر تحديث : الخميس 8 يونيو 2023 - 7:05 م

الشانزليزيه هذا الشارع الباريسى الأشهر حول العالم له ألف قبعة وقبعة، وهو قادر على تبديل قبعاته بمنتهى السهولة والإبهار أيضًا. عندما تفوز فرنسا بكأس العالم فى كرة القدم يتحوّل الشارع الطويل إلى استاد كبير وتتصدّر صورة نجم الفريق الوطنى زين الدين زيدان شاشة العرض الضخمة عند قوس النصر، ومن نفس الشارع ينطلق ماراثون باريس الدولى الذى يعود تاريخه إلى أكثر من ١٢٥ عامًا.. ياللهول!. وفى المهرجان الوطنى للسينما تصطّف الكراسى بامتداد الشارع لتعرض على نفس الشاشة الضخمة أشهر الأفلام العالمية بأسعار فى متناول المواطن الفرنسى المتذوّق بطبيعته للفن والمحّب جدًا للحياة. فى الكريسماس تتحوّل أشجار الشارع على الجانبين إلى مجموعة من الثريات التى تضئ بشياكة لا مزيد عليها ليل مدينة شهرتها أنها مدينة النور. فى العيد الوطنى يتحوّل الشارع إلى ساحة فخيمة للعرض العسكرى وتظلل أسراب الطائرات سماءه بسحابة ربما خفَفت من حرارة شهر يوليو، وصيف باريس عالى الحرارة والرطوبة معًا. إنه الشارع الذى تسمع فيه الفرنسية السليمة والمكسرّة والممزوجة باللهجات المغاربية لكأنك انتقَلتَ إلى شارع الحبيب بورقيبة فى قلب العاصمة التونسية الذى يحمل أيضًا اسم شارع الشانزليزيه. وهو الشارع ذو المتعة المتاحة للجميع، وإن كانت الميزانية هى التى تحدّد شكل المتعة وما إذا كانت ستتخذ شكل عشاء فاخر فى مطعم لوفوكيه الأنيق، أم شكل كوب من الآيس كريم العادى على واحدة من الدكك المنتشرة بطول الشارع، أم شكل حلقة استماع لموسيقار موهوب يعزف على جيتار قديم وبجواره كلب مستكين ووعاء تتساقط فيه اليوروهات والسنتات. ثم أنه الشارع الذى يفاجئك كل عام بشيء جديد فيه، وليس كل الجديد الذى تفاجأ به مبهج أو يدعو للسرور بالضرورة لكنه علامة على أن الحياة تمضى بحلوّها ومرّها، فبعد نحو ثلاثين عامًا من افتتاح محل ديزنى قرب نهاية الشارع أُذن للمحّل الذى كان جنّة الأطفال والحقيقة كان جنّة الكبار أيضًا أن يصفّى أعماله.. فى هذا الركن الذى اختفى من الوجود ولم يعد قائمًا إلا فى ذاكرة مَن عرفوه التقط الصغار صورًا كثيرة مع ميكى ومينى وموانا والكرات الملوّنة تحيطهم من كل الزوايا، وفى تلك الزاوية لم تطق صغيرتى صبرًا على الجليتر (البودرة اللامعة) الموجود فى داخل كيس البلاستيك مع أحمر الشفاه وطلاء الأظافر- فمزّقَت الكيس إربًا وملأَت وجهها الحبيب بنمَش ذهبى لطيف. إنه الشارع ذو العطر النفّاذ وبيوت الأزياء الراقية والمعالم التاريخية القديمة والاحتجاجات الحاشدة والاحتفالات الصاخبة، باختصار إنه الشارع ذو الوجوه المتعددة، وأحدث الوجوه التى ظهر لنا بها شارع الشانزليزيه قبل أيام كان هو وجهه التعليمي.
●●●
يوم الأحد ٤ يونيو امتدّت على مرمى البصر صفوف المقاعد الدراسية استعدادًا لحفلة إملاء كبيرة شارك فيها أكثر من خمسة آلاف شخص. هذه المسابقة المفتوحة للإملاء تشاركت فيها أعمار مختلفة وخلفيات طبقية وعِرقية ودراسية ومناطقية مختلفة، نساء ورجال، قبعات وحجاب وشماسى وقراطيس ورق للحماية من شمس الظهيرة وأيضًا للفت الأنظار. لن أدخل فى تفاصيل النصوص الإملائية التى امتحن فيها الحاضرون، فهذه التفاصيل موجودة فى كل وسائل الإعلام وبتكرار ممل يندر أن نجد فيه شيئًا من الاختلاف أو الإضافة كأن مصدرًا واحدًا وزّع نفس الخبر بنفس الكلمات على الجميع. لكننى سأذهب إلى الشخص الذى يقف وراء الفكرة، وسأذهب أيضًا للحالة التى أحدثَتها هذه الفكرة وكل الرسائل التى حملَتها فى طيّاتها. صاحب الفكرة هو رشيد سانتاكى الرجل الخمسينى الفرنسى ذو الأصل المغربي، والواضح جدًا فى حبّه وافتتانه باللغة الفرنسية لأنها لغة الأدب والمسرح والفلسفة.. وهو أديب وله عدّة مؤلفات وصاحب تجارب طويلة عريضة فى تنظيم ورش الكتابة. دأب سانتاكى منذ عام ٢٠١٣ على تنظيم مسابقات للإملاء باللغة الفرنسية لكن على مستويات أقل من مستوى إملاء الشانزليزيه. ولقد شاهدتُه فى العديد من البرامج الثقافية مارس فى أحدها هوايته فى الإملاء وكان من يملى عليه يكتب وراءه باهتمام، يميّز له سانتاكى بين الماضى البسيط المنتهى بسرعة passé simple والماضى البعيد المستمر لفترة imparfait، ويتعامل بحذر مع كل المطبّات اللغوية الفرنسية الكثيرة، ويتوقّف ليطلب من الجالس قبالته أن يضع فصلة وفصلة منقوطة ونقطة. وهكذا فمن دون أن يقول سانتاكى إنه يسبح ضد التيّار فهو يسبح بالفعل ضد التيار، أما هذا التيار الذى يسبح ضده فإنه ذلك الذى يميل للاستسهال ويدعو لتحديث اللغة الفرنسية بكتابة كلماتها كما تُنطق مع حذف الحروف غير المنطوقة. كما أن تيار سانتاكى يعيد الاعتبار لعلامات الترقيم التى تسخر منها الأجيال الجديدة فى العادة باعتبارها غير ضرورية من وجهة نظرها. وهو أيضًا يمرّن أصابع الفرنسيين على الكتابة الصحيحة بالقلم الجاف حيث لا يوجد مصحّح إلكترونى ذكى يصوّب الأخطاء النحوية والإملائية داخل جهاز الموبايل أو الكومبيوتر أو الآيباد. ثم أنه يصنع همزة وصل بين الأدباء الفرنسيين والأدباء العرب من أصحاب الجنسية المزدوجة عندما يكون النص الذى يمليه سانتاكى من إنتاج أديب كبير كمثل الأديب اللبنانى الفرنسى أمين معلوف. وبالإضافة إلى هذه الوظيفة الثقافية المهمة لعملية الإملاء الجماعي، توجد هناك وظيفة اجتماعية لا تَقل أهمية، فكم كان جميلًا أن يُذيب الإملاء الفروق بين الفرنسيين.. كل الفروق من أول الفرق فى لون البشرة وحتى الاختلاف فى الاتجاه السياسي. توافدَت أسر بالكامل على شارع الشانزليزيه لتشارك فى مسابقة الإملاء، فكان يجلس الأب والابن والحفيد وهم متجاورون، وعندما سأل أحد المذيعين عينة من المشاركين فى الإملاء عن سبب مشاركتهم فى هذه المسابقة، كان منهم مَن قال إنه شارك لأنه يحب القراءة والكتابة، ومَن قال إنه جاء ليستعيد أيام التلمذة والامتحانات المدرسية، ومَن قال إنه استجاب لأن التجربة فيها شئ من المغامرة وهو يريد أن يتسلّى. المهم فى الموضوع أن الفكرة خاطبَت نقاط الضعف عند فئات كثيرة من الفرنسيين وانكّب الجميع على كراسات الإجابة بمنتهى الجدّية، وصاحت إحدى المشاركات قائلة إنها أخطأَت ثلاثة أخطاء فقط، وأظن أنه مع أول مسابقة إملائية جديدة ستشارك هذه السيدة مرة أخرى وستتعلّم من أخطائها السابقة، ومَن يدرى لعلها تخرج بنصّ نظيف بلا أخطاء وتفوز حينها بجائزة.
●●●
كل شئ يُصنَع بحب ينجح لأن الحب قرين التفانى فى الإتقان، وهذه القاعدة الذهبية تم اختبارها فى العديد من المناسبات، وسانتاكى الذى ينتمى للجيل الثانى من المهاجرين المغاربة لفرنسا أحب اللغة الفرنسية الغنيّة الأنيقة الصعبة وعبّر عن حبه لها بطريقة مبتكرة تخدمها وتحافظ عليها فى ظل العولمة، أكثر من ذلك فإنه نشرَ حبها فى دوائر متسّعة كما تتسّع الدوائر فى بحر يحرّك أمواجه حجَر صغير. فماذا أقول بعد؟ أقول إننا نحتاج إلى مَن يحبّ اللغة العربية كمثل حب سانتاكى للغة الفرنسية وأن يجذب هذا المحّب لحبه المصريين والعرب فى كل ربوع وطننا العربي، وساعتها يمكن أن نشاهد مسابقات إملائية تعمّق الانتماء وتخطف الاهتمام وتجذب الأضواء فى شوارع: محمد الخامس فى الدار البيضاء والحمراء فى بيروت والمتنبّى فى بغداد والأمير محمد بن عبد العزيز فى الرياض والحبيب بورقيبة فى تونس وميدان التحرير فى صنعاء وبغداد وطرابلس وطبعًا فى ميدان التحرير فى قلب القاهرة.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات