طائرة البهجة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 9:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طائرة البهجة

نشر فى : الخميس 11 يناير 2024 - 8:15 م | آخر تحديث : الخميس 11 يناير 2024 - 8:15 م
على إحدى مجموعات الواتساب أرسلَت صديقة من أيام المدرسة صورة لمجموعة من الفنانات والفنانين كانوا على متن طائرة متجهة من القاهرة لتونس في عام ١٩٦١ لإحياء ثلاث حفلات غنائية كما ورد في العنوان المكتوب. الصورة التي كنت أراها لأول مرة اكتشفتُ لاحقًا أنها مشهورة ومتداوَلَة على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي فلقد تأخّر حصولي على نصيبي من البهجة شهورًا وربما سنوات عمن سبقوني في الوصول إليها. في أول صفّ جلسَت مريم فخر الدين وصباح وفايزة أحمد، وفي الصفّ الثاني جلس محمود شكوكو وفؤاد راتب (الخواجة بيچو) ومحمد قنديل، وفي الصفّ الثالث ظهر محمد عبد المطلب وأحمد فؤاد حسن وشخص آخر غير واضح، ثم لم يعد من الممكن تمييز وجوه الجالسين في الصفوف التالية. كان أول انطباع لي فور أن رأيت هذه الصورة هو الدهشة من قدرة طائرة واحدة على أن تحمل هذا الكّم من الطرب والموسيقى والظرف واللطف والمتعة الفنيّة الخالصة. وقفزت إلى ذهني تعبيرات وجه نجيب الريحاني في فيلم سلامة في خير حين كان يداعب طيارًا ضخم الجثة قائلًا له: الهوا ده بيشيل تمام. لكن هواء هذه الطائرة غير الهواء الذي كان يتندّر عليه نجيب الريحاني في الفيلم، هواؤنا فيه من البهجة والفرح والسعادة والسرور ما يكفي لتغيير مزاج الملايين من البشر إلى الأفضل ويزيد، وفي الأيام الصعبة التي نمّر بها حاليًا ما أشدّ احتياجنا لتغيير المزاج.
• • •
هذه التركيبة العبقرية من الفنانين توضّح لنا كيف كان الحضور العربي مكوّناً رئيسيًا من مكوّنات الفن المصري في تلك الفترة الزمنية، فمن أصل ثلاث فنانات على الطائرة كانت هناك فنانة سورية هي فايزة أحمد وفنانة أخرى لبنانية هي صباح، وكان وزير الإرشاد القومي الأستاذ محمد فائق قد نجح بتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر في إعادة الفنانة صباح إلى مصر وذهب لزيارتها في سوريا عام ١٩٦١ بعد أن قام رجال الجمارك المصريين بتطفيشها على حد قوله في مذكراته الشخصية الصادرة حديثًا. بل إن حضور الفنانة المصرية الوحيدة أي مريم فخر الدين بدا لي غريبًا بعض الشئ وسط هذه الكوكبة من المطربين والموسيقيين، طالما أن غرض الرحلة كان هو إحياء ثلاث حفلات غنائية، لكني افترضتُ أنه ربما كانت هناك نيّة لتكريم مريم فخر الدين كممثلة مشهورة، أو ربما أرادت هي مشاركة هذه الكوكبة الرائعة من زملائها في الاستمتاع بأجواء الاحتفاء التونسي بالفن المصري. وهنا أفتح قوسين لأقول إن أحدًا لا يمكنه إدراك مدى تعلّق الجمهور التونسي بالفن المصري إلا إن كان قد زار تونس وعايش أهلها. وعن نفسي فإنني مازلت أذكر جيدًا صباح يوم الثالث من ديسمبر عام ١٩٩٢ عندما دخَلَت عليّ في غرفتي بالفندق عاملة النظافة وعيناها متورمتان من فرط البكاء قائلة "البقية في حياتك يا مدام"، وعندما استفسرتُ منها مندهشة عما تقصده بالضبط، قالت لي في حزن حقيقي إن الفنان الكبير صلاح قابيل قد توفّاه الله. وهكذا فمع أن صلاح قابيل لم يكن بمعايير السوق المعروفة نجمًا من نجوم الشبّاك إلا أن أعماله الجادة كان لها مَن يُقدّر قيمتها الفنيّة الرفيعة، ويكفيه من تاريخه السينمائي دوره العظيم في فيلم الراقصة والسياسي.
• • •

بعد أن تشبّعت بهذا القدر الهائل من الإبهار البصري الذي كان يشّع من الصورة إياها، رحتُ أتصوّر كيف كان يمكن أن يتفاعل الفنانون الموجودون فيها مع التقائهم على متن الطائرة في الساعات الأولى من الصباح. وبدا لي من المناسب أن يستهّل محمد قنديل المشهد بأغنيته المبهجة يا حلو صبّح يا حلو طُلّ.. يا حلو صبّح نهارنا فلّ، فيلتقط منه محمود شكوكو طرف الخيط ليبعث بتحية الصباح إلى محبوبته عبر منولوجه شديد الظرف الذي تقول كلماته: والنبي يا نسمة الصبح تروحيله.. إركبي الأوتوبيس على حسابي وقوليله يجرى ماذا لو يا هذا تدّي قلبي يوم إجازة.. ليلي طال بقى عشرومية وعشرة كيلو. ولأن مسألة قيام نسمة الصباح بقطع تذكرة وركوب الأوتوبيس تنطوي على مبالغة من النوع الثقيل فعلى الأرجح أنها كانت ستدفع الخواجة بيچو إلى التدّخل والتعليق عليها بنفاد صبرٍ كالمعتاد: آه يا لنفوخ بتاع الأنا، فهذه المبالغة التي أتاها شكوكو لا تختلف كثيرًا من حيث المضمون عن مبالغات محمد أحمد المصري (أبو لمعة) التي كانت تستفّز الخواجة بيچو وتهدينا ألطف حوار ممكن بين الاثنين. تصوّرت أيضًا أن تحتفل صباح بالتئام الشمل فتغني والله واتجمعنا تاني يا قمر.. والله واتجمعنا واحلوّ السهر، مع أن تاريخ هذه الأغنية يعود إلى ما بعد الرحلة الفنية لتونس بأكثر من عشر سنوات، لكن الخيال لا يعترف بحدود، والأمر كله خيال في خيال. تبقّى لي التفكير في رد الفعل المحتمل من جانب فايزة أحمد، وبالفعل رحتُ أبحث في ذاكرتي عن أغنية لفايزة تخّص الصباح حتى وجدتُ أخيرًا أغنية لا تذاع كثيرًا، كتب كلماتها فؤاد الأبيض ولحّنها سيد مكاوي، تقول فيها: يا نسيم الفجر صبّح ع الجمال.. روح وقول له ده اللي حَبّك قلبه مال، قلبي حيّرني في هواك بين خيالي وبين آمالي ليلي طال. وعندما نتأمّل في كلمات هذه الأغنية نلاحظ درجة لا بأس بها من التشابه مع كلمات مونولوج شكوكو، لأن فايزة توصي أيضًا نسمة الصباح بالذهاب للحبيب لتنقل له رسالة شوق، وهي مثل شكوكو تعاني من السهر طوال الليل. لكن بحكم جديّة فايزة المعروفة عنها فإن نسمتها لا تركب الأوتوبيس كنسمة شكوكو بل نجدها تسبح في السماء بشكل عادي، كما أن طول ليل فايزة يقاس بالساعة وليس بالكيلو كما هو الحال مع ليل شكوكو. عمومًا رغم أن صوت فايزة أحمد لا يقّل قوةً وجمالًا عن صوت محمد قنديل ومحمد عبد المطّلب، لكن خفة دم محمود شكوكو غير إشي كما يقول أهلنا في الشام.

• • •

محظوظة السُحُب التي كانت تخترقها طائرة البهجة فتلوّن بياضها بعشرات الألوان الزاهية كمثل ألوان قوس قُزَح، فإن حدث وأمطرت علينا هذه السُحُب رأينا في أمطارها العجب العُجاب.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات