x قد يعجبك أيضا

1944 ــ 1945.. كتابان لطه حسين!

الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 - 9:00 م

فى عام 1944، ألف طه حسين كتابا ــ كان يباع حينها بخمسة قروش ــ حاملا بين دفتيه الصغيرتين 125 صفحة ــ وأعطاه عنوان «صوت أبى العلاء».

يبدو الموضوع هينًا بسيطًا لا تعقيد فيه، طه حسين يترجم أفكار أبى العلاء من صيغتها الشعرية إلى سطور نثرية. الترجمة التى قام بها طه حسين (من العربية إلى العربية) لأشعار أبى العلاء لا تنطلق من أن لغتنا الفصحى فى 1944 صارت بعيدة عن لغة زمن أبى العلاء المعرى قبل نحو 1000 سنة، الحقيقة أن طه حسين اتخذ من أشعار أبى العلاء وعاءً سكب فيه أفكارًا مشتركة تتجاوز الزمن، فلم نعد متأكدين تمامًا هل هذه ترجمة أشعار أبى العلاء أم بنات أفكار طه حسين؟

لا يتركنا طه حسين فى هذا الشك طويلا، فمفكرنا العبقرى ــ بتحدى الواثق المكين ــ ينهى كل ترجمة بالأبيات الشعرية الأصلية لأبى العلاء، فإذ الدهشة المضاعفة تأخذنا جراء التطابق الكبير بين الأفكار والأشعار.

بمرور أول 20 صفحة توقفت عن مضاهاة النص النثرى بالأشعار الأصلية وتركت نفسى فقط مع طه حسين وموسيقى صوت كلماته التى أتت متسقة فى الحقيقة مع العنوان الذكى الذى اختاره للكتاب: «صوت أبى العلاء».

بعد أن يلقى علينا طه حسين ومضة من حياة وزمن أبى العلاء يفند التهمة الأولى التى يتوقعها من كثير من القراء الذين سينكرون عليه هذه الترجمة لأنها تشيع التشاؤم.

الحياة أقوى وأنضر ــ يقول طه حسين ــ من تشاؤم المتشائمين، وما ينبغى أن تكون الحياة للشباب حلوة مسرفة؛ فربما دعا ذلك إلى شىء من الغثيان والإسراف فى الرضا والابتسام، ما يجعل الحياة فاترة خائرة قليلة من هذه الشدة التى تكوِّن الرجولة، وتخلق المروءة، وتجعل الشباب قادرين على أن يلقوا المحن والخطوب بشىء من الجلد والشجاعة والصبر.

والشباب ــ يمضى طه حسين ــ فى حاجة إلى شىء من التشاؤم يزهدهم فى الحاضر ويرغبهم فى المستقبل، ويدفعهم إلى الإصلاح، ويزين فى قلوبهم حب الرقى، وليس شبابنا فى حاجة إلى أن يلتمس التشاؤم عند «نتشه» و«شوبنهور» ولا إلى أن يلتمسوا النقد الخلقى والاجتماعى عند «لارشفوكو» وأمثاله، فعندهم أبو العلاء وقد امتلأت آثاره بالنقد السياسى والخلقى والاجتماعى.

هذا الكتيب الرشيق يقدم لنا هدية حقيقية لثلاثة أسباب:

     •     أنه يعيد تعريف التشاؤم كاشفًا عن فلسفة عميقة لفن التعامل مع الحياة.

     •     أنه يجبر فجوة زمنية فى الأدب العربى نكتشف معها أطيافًا من الأمل من ذات الأسباب التى يعتقد أنها مدعاة لليأس والقنوط.

- أن الجسر البلاغى الفلسفى الاجتماعى الممتد بين 1944 واليوم ما زال جسرًا قويًا دعمه طه حسين بكل بلاغة وإمتاع وحكمة.

وفى العام التالى (1945) استفتح طه حسين كتابه «فصول فى الأدب والنقد» بتمهيد فلسفى عن جدوى الكتابة حدد فيه علامات المشكلة على النحو التالى:

     •     الكتابة ظاهرة اجتماعية تخص الإنسانية وليست عملية فردية، المفكر أو الكاتب يمارس نشاطا وثيق الصلة بالمجموع ولا يتوقف عند حدود نفسه وذاته. الكاتب أو المفكر الذى يعيش فى معزل عن الحياة ولا ينشغل بها ولا يتفاعل مع مشكلاتها كاتب أسطورى لا يوجد إلا فى الأخيلة. الإنتاج الفكرى ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تكون إلا فى الجماعة التى تتلقى هذا الأثر الفكرى، راضيةً عنه أو ساخطةً عليه، معجبةً به أو زاهدةً فيه.

     •     التفكير وثيق الصلة باللغة، والأخيرة هى وعاء نقل الأفكار، وبين التفكير واللغة جسر قوى متين. الأفكار تتخذ لنفسها من الألفاظ صورا وتلبس من المفردات أزياء تمنحها الوجود وتمكِّنها من الخطور على البال، والاستقرار فى الضمير.

     •     لا يمكن أن نقول لكاتب أو مفكر اكتب لنفسك أو احتفظ بأفكارك لذاتك دون غيرك، لابد للأفكار أن تُنطق أو تُكتب وتُسمع أو تقرأ. وقد يخيل إلى الكاتب ذى الشخصية القوية الممتازة أنه لا يكتب للناس ولا ينتج لهم؛ لأنه واثق أو كالواثق بأن الناس لن يفهموا عنه، ولن يسمعوا له؛ فهو إنما يكتب ليرضى نفسه. ولكن هذا الكاتب إن وجد ــ وما أكثر ما يوجد ــ إنما يخدع نفسه عن حقيقة الأمر، إذ بدون رد فعل الناس على ما يكتب من إعجاب أو انصراف لا يمكن لكاتب أن يستمر أو يرتقى بأعماله.

     •     يعانى الكاتب أو المفكر كثيرا من إهمال النقاد وإعراضهم عنه، وقد يتهمهم بالحسد ويَصِمُهم بالغيرة، وقد يعتب على هذا الناقد أو ذاك من أصدقائه؛ لأنه لم يُنوِّه بكتابه ولم يذكره أو يتحدث عنه. كيف هذا وانت تزعم أنك لا تكتب إلا لنفسك ولا تنتظر رأى الناس؟

     •     الكاتب إذن حيوان اجتماعى لا يعيش إلا بالناس ولا يعيش إلا للناس. منهم يستمدُّ خواطره وآراءه، وإليهم يوجِّه خواطره وآراءه. يُنتج إن غذوا حسه وشعوره وعقله بالظواهر والحوادث والواقعات، وينعم إن أحس أنهم يسيغون ما يقدم إليهم من غذاء. وهو مفلس إن عاش فى بيئة لا تغذو الحس والشعور والعقل، وهو مبتئس إن عاش فى بيئة لا تستمتع ولا تظهر له أنها تستمتع بما يقدِّم إليها من ثمرات.

     •     بسبب العلاقة المضطربة بين الكاتب والناس تنشأ درجات زمنية للكتاب، فهناك من الكتاب من يلائم عصره ومن لا يلائمه، ومن يُفهم فى عصره، ومن لا يُفهم إلا بعد عصره بقرون، ومن هنا يكون بين الأدباء من يُتاح له المجد السريع، ويكون منهم من يُتاح له المجد البطىء. ومن هنا يكون بين الأدباء من يفسد المجد عليه أمرَه وفنه، ويكون بينهم من يتاح له القصد فى ذلك، فلا يبطره الفوز، ولا يوئسه الإخفاق، وإنما يسلك بين ذلك سبيلًا وسطًا، فيلتمس لذته ومتعته فى فَنِّهِ وفى آثاره، أكثر مما يلتمس لذته ومتعته فى رضى الناس عنه، وإعجابهم به، وتهالكهم عليه.

     •     لا ينجح الكاتب إلا إذا اشتدت الصلة بينه وبين الناس، فكان صدًى لحياتهم، وكانوا صدى لإنتاجه، وكان مرآةً لما يذيع فيهم من رأى وخاطر، وما يغذوهم به من هذه الآثار الأدبية على اختلاف ألوانها. وهو فى حاجة إلى أن يشعر بهذه الصلة، وإلى أن يراها قويةً متينةً، مترددةً بينه وبينهم، كما يتردَّد الرسول بين المحبين، فيدفعه إلى العمل، وينشطه للإنتاج، ويغذو نفسه بالمعاني، ويثير فيها الخواطر والآراء، ويشيع فى لغته القوة والحدة والنشاط، ويلائم بين هذه اللغة وبين قلوب الذين يقرءونه ويسيغونه على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم فى جمهور الناس.

فى عام 1945 ــ وليس فى عام 2025 ــ دق طه حسين جرس إنذار يقول فيه:

«ويشمل الحياة الفكرية فى مصر فتور مُهلِكٌ أو مدن من الهلاك. ولا بد من أن ينجاب هذا الفتور، ولا بد من أن يُذاد هذا النوم، ولا بد من أن ينشئ الأدباء ويقرأ القراء وهم أيقاظ. والنقد وحده كفيل بإيقاظهم».

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة