مثل كثيرين أحن إلى بعض، وليس كل، الماضى. أخشى إن تمنيت عودتى إليه وتحقق التمنى أن أجد فيه تفاصيل لم أحبها. أخشى أيضا أن أعود وأنا فى هذا العمر وهذا الحجم وهذا الشكل فينفر من لقائى أصحاب وصاحبات الزمن الذى عدت إليه. أو أعود فلا أجد شجرة الجميز التى غفوت كثيرا من «قيلولاتى» فى ظلها، ولا أجد على حافة النهر النخلتين اللتين شدنى إليهما عناقهما الصريح والمكشوف، ولا أجد الشاب بائع المثلجات ليحمل لى النبأ السعيد «لقد غيروا العسكرى الذى كان يزعج عشاق وعاشقات النخلتين المنحنتين قليلا فى خشوع وجمال». سعيد الصبى البائع بغياب السلطة الجائرة وعودة الخشوع والهدوء الممتع والعشاق إلى المكان.
• • •
إن تقررت عودتى فلتكن للحظات، أسمع فى لحظة منها صوتا صادرا عن نفير كنفير اليهود. نعرف على الفور أنه الإعلان بوصول السفيرة عزيزة إلى حينا. آخذ «المعلوم» من أمى وأسلمه إلى صاحب السفيرة. يجلسنا على «دكة». وبلهفة ندخل رءوسنا فى نفق مظلم لرؤية فيلم قصير، يتلوه إصرارنا على رؤية فيلم آخر فيستجيب الرجل ولكن بعد أن يلقى عليه «معلوما» آخر من أمى التى لم تغادر موقعها فى الشرفة تراقب وتنصح وتحذر.
• • •
فى لحظة أخرى من لحظات عودتى إلى الماضى أرى نفسى ممسكا بيد أمى، يد أتذكرها ناعمة ولكن حازمة، ونحن فى الطريق لاحتفال «سبوع» طفل جديد فى العائلة الممتدة. كنت شاهدا على استلام أم الرضيع جنيها ذهبيا وعلى احتفال يتميز بالضجة الهائلة، علمت فى حينها أن الضجة كانت متعمدة «لدفع» المولود للصراخ دليلا على سلامة سمعه بل وكل حواسه. لن أنسى الصوت المزعج الصادر عن «الهون»، الصوت مألوف فى كل منازلنا العتيقة ولعله ما زال مألوفا ولكنه فى حفل «السبوع» صارخ وغير محتمل. لن أنسى أيضا الرضيع المسكين راقدا فوق «منخل» يدورون به فى صالة الحفل لتوزيع أكياس «البونبون» والمكسرات على الضيوف الكرام.
• • •
لعلى كنت أمر بمرحلة زمنية مختلفة لأتذكر صوتا لم أسمع نظيرا له فى جماله وعذوبته، صاحبه بائع الفول الأخضر. أتذكر أهل الحى وهم يطلون عليه من شرفات منازلهم معجبين بالصوت وممسكين بسلال فارغة إلا من ثمن رطلين من الفول الأخضر. يستقبل البائع السلال يأخذ منها النقود ويضع فيها مقابلها من الفول، ومن سلة إلى أخرى وحنجرة فى الشارع لا تتوقف عن التغنى ببدائع هذا الفول. بالفعل كان الفول بديعا وهذا هو رأى من يفهم، وهو أمى التى تكون قد استعدت له بصوانى الخبز البلدى والجبنة «الاستامبولى» الغاطسة فى كثير من قطع الطماطم الطازجة.
أتذكرهم، أهل بيتى، وقد اجتمعوا حول الفول الأخضر ينصتون لصوت آخر لا يقل روعة قادم من أعلى دولاب الملابس حيث يرقد تحت غطاء الدانتيلا الفاخر الراديو الكبير بعيدا عن أيدى العابثين من الصغار والكبار على حد سواء، إنها ليلة الخميس الأول من الشهر عندما تغنى أم كلثوم. لست مبالغا عندما أقرر أن الفول الأخضر ارتبط فى مخيلتى حتى يومنا هذا بالصوت البديع والفن الراقى.
• • •
دخل التليفون بيتنا تحت إلحاح شقيقتى الأكبر. كانت الشقيقة كثيرة السفر مع زوجها وابنتيها تارة فى بغداد وتارة أخرى فى عمان، كما أن الشقيق الأكبر كان قد التحق بالبحرية فتعددت مصادر الإلحاح. أتذكره، أقصد التليفون، فى مكانه قرب مدخل الشقة ثابتا لا يتحرك إلى أبعد من خطوة أو خطوتين. كانت حركته مقيدة بفعل فاعل وهو السلك، ولم نتنبه إلى أهمية أن يتحرك لمسافات أبعد إلا بعد فترة ساد فيها الحرج، ففى البيت مراهق فى الثانوية ثم فى الجامعة ومعظم اتصالاته كانت تجرى بالهمس المحرج لجميع الأطراف. بمناسبة الحديث بالهمس أعترف بأننى تعلمت درسا رائعا فى فنون الصمت إذ أقدمت ما لم أعرفها من تنهيداتها على إقامة علاقة عاطفية بالصمت، علاقة كادت تفضى إلى ما هو أعمق وأبعد. رائع هذا الصمت إذا أحسن استغلاله.
أتذكر أنهم قرروا إطالة السلك، فتحولت مشكلة الهمس إلى مشكلة البحث عن جهاز التليفون فى شتى أرجاء البيت، وأحيانا نجده عند الجيران وكانوا من أهل المنصورة. كانوا أحسن ناس، بالفعل أفضل من كثيرين عرفتهم هنا كما فى بلاد الشرق والغرب، خلال أزمنة حياتى المتباينة.
• • •
كتبت كثيرا آسفا عن توقفنا أفرادا وشعبا وحكومة عن الاحتفال بعيد وفاء النيل. اسألوا أبناء وبنات جيلى والأجيال السابقة عما تحمله ذاكراتهم لهذا اليوم الرائع. رأيت الناس فى الهند يعبدون النهر ويقدمون له الأضاحى ويستحمون فى مياهه يوم عيده، يوم تزدان المدن بالألوان المبهجة وتردد مع مكبرات الصوت أحلى الأغاني، أغانى التقديس أو أغانى الحب. يعترفون بجميله ويدعون له بالصحة وطول العمر، فالعمر عندهم مرتبط بهذا النهر الأعظم، وبفضله يفخرون وعلى كرمه يعيشون.
لم أدع ولن أدعو إلى تقديس نهرنا. كنت، من فرط اعتزازى بما أعطاه ويعطيه لنا، مشاركا أمينا فى كثير من مظاهر الاحتفال فى عيد وفاء النيل، أى التعبير عن الحب، نحتفل بيوم عيده. لم يبتكر جيلى الاحتفال فالفضل يعود إلى المصريين الأقدم وربما الأكثر وفاء من مصريين جاؤوا بعدهم على مر العصور. النيل فى أصله وطبيعته المتجددة هبة الخالق، لذا أدعوكم يا أولاد مصر بنات وبنين، للتعبير عن وفائكم له واستعدادكم للتضحية من أجل تحقيق متطلبات استمرار فيضه وجماله وبهائه.