x قد يعجبك أيضا

مفرش سفرة البيت الكبير

السبت 27 ديسمبر 2025 - 6:25 م

 

تُخرِج المفرش من الخزانة لكى تضعه على مائدة الطعام العتيقة. عمر المفرش أكبر من عمرها بكثير، فعلى الأغلب طرزته جدتها بنفسها واحتفظت العائلة به عبر السنين ولا تستخدمه إلا فى المناسبات الخاصة جدا، للتبرك به، فالأجيال المتلاحقة تعتقد أنه يجلب لها الحظ السعيد، وهو ما يتمناه الجميع لآخر العنقود التى سيلتقون بأهل عريسها الليلة لأول مرة على العشاء، فى خضم احتفالات رأس السنة. ترنيمة فيروز «يا مريم البكر فقتِ الشمس والقمر وكل نجم بأفلاك السماء سرى» التى تستمع إليها فى الخلفية تساعدها على التفكير فى أدق تفاصيل العزومة. ترتاح للتراتيل التى لحنها زياد الرحبانى لأمه، وتترحم على هذا الأخير الذى رحل عن عالمنا هذا العام الموشك على الانصراف.

كل من يزور هذا البيت الكبير الذى صارت تسكن فيه وحدها يقف مشدوها أمام طاولة السفرة الغريبة، فتحكى لهم أن والديها اشتراها من أحد المزادات، وقيل لهما وقتها إنها ترجع لعهد نابليون الثالث ولم يُبَعْ معها سوى أربعة كراسى، اثنان كبار جدا واثنان صغار الحجم، واضطر المقتنون الجدد إلى إضافة كراسى مشابهة لتسع عدد أكبر من الأشخاص. ربما شعر أهل البيت أن تاريخ مائدة الطعام يتوافق مع نشأة هذا البيت الذى يعود هو الآخر للقرن التاسع عشر، فقد كان نابليون الثالث رئيسا للجمهورية الثانية فى فرنسا من عام 1850 إلى 1852، ثم إمبراطورا للبلاد بعد ذلك وحتى 1870، وحينها اهتم بمصر وبمشروع قناة السويس لأهداف انتهازية بالطبع ولولعه بتاريخها الذى ورثه عن عمه بونابرت.

• • •

السيدة التى تقف على مشارف التسعين تربط بين هذه الفترة وظهور المحاكم المختلطة فى مصر عام  1875، تلك التى عمل بها أحد الإخوة الذين أسسوا المنزل وعاشوا فيه مع ذويهم.. كانت موجودة فى القاهرة والإسكندرية والمنصورة، وجلساتها تعقد بالفرنسية للنظر فى نزاعات الأجانب حتى نهاية الأربعينيات. وقد احتوى البيت منذ البداية على حجرة للطعام على غرار موائد الأسر البرجوازية فى أوروبا، فتخصيص غرفة لتناول الوجبات المختلفة لم يظهر خارج قصور الملوك والأديرة إلا فى القرن الثامن عشر، وذاع استخدام المفارش بعدها على نطاق أوسع مع تطور صناعة النسيج فى القرن التالى كى ينتشر لدى الأسر المتوسطة، أما سالفًا حين عرف النبلاء المفارش خلال القرون الوسطى فكان مقياسا للمستوى الاجتماعى للأفراد. العائلات الكبيرة تطرز أطرافه وتنقش الحروف الأولى من اسمها على حافته، التى يرفعها البعض بعد انتهاء الوليمة لكى يمسح فيها يديه.

فى الصور القديمة، نلمح طاولة طعام غير تلك الموجودة حاليا فى البيت، كانت مستديرة من خشب «الأكاجو» أو الماهوجانى، على الطراز الإنجليزى السائد وقتها، يتم تطويلها أو تقصيرها وفقا للحاجة ولحجم المدعوين. كانت الموائد دائما ومفارشها وطقوسها وسيلة لإبراز الثراء والسطوة وهى تلجأ إليها اليوم من باب الزهو والتفاخر أمام عريس حفيدتها كى يحكى المفرش المشغول عن أصلها وفصلها وانتمائها لعائلة كانت دائما مواكبة لآخر صرعات الموضة، فقد عرفوا آداب المائدة وبروتوكول تقديم الأطباق تباعا الذى يسمونه «طريقة الخدمة الروسية» فى ذات الوقت الذى اتبعه فيه الغرب خلال القرن التاسع عشر. كل ما تستدعيه ذاكرتها اليوم يتمحور حول هذا الزمن على ما يبدو، وكأن البيت يروى قصته من خلال المفرش الجميل.  

• • •

صوت فيروز يهمس بترنيمة أخرى تُنشد عادة فى أسبوع الآلام. مازالت تذكر ذلك العشاء الذى حضرته على مأدبة صدام حسين أثناء عملها كمترجمة محترفة، خلال مثل هذه الفترة من السنة، فى نهاية الثمانينيات. أصوات الشوك والملاعق ترن فى أذنيها كما لو كان الأمر اليوم. تعلم أن معظم الطغاة استخدموا موائدهم الفاخرة لإثبات تفوقهم وإدهاش ضيوفهم. وقد أتى معظمهم من أصول بسيطة واختبروا الجوع، لذا أحبوا تعويض ما فاتهم وأرادوا الثأر من السنين العجاف، حتى لو اكتفوا بوجبات بسيطة فى حياتهم الخاصة. قيل إن صدام حسين كان يحب «المسكوف» العراقى وهو سمك يفتح ويتبل ويشوى بطريقة تقليدية على نار هادئة، وإن ماو تسى تونج كان يهوى أكل الخنزير وستالين يفضل المطبخ الجورجى، أما هتلر فكان نباتيا يخشى أن تتسبب اللحوم فى إصابته بالسرطان.

تستمر تراتيل فيروز فى مصاحبتها، تنقلها إلى طفولتها ومفارش المتنزه الذى كان والدها يأخذها إليه أيام العطلات. طاولات كثيرة متراصة وقد اكتست بقماش كاروهات باللونين الأزرق والأحمر. علمت فيما بعد أن هذا النوع يسمى بمفارش فيشى نسبةً إلى المدينة الفرنسية التى اشتهرت بثقافة المنتجعات الصحية منذ القرن التاسع عشر، مرة أخرى ترجعها تفاصيل الحكايات إلى عهد نابليون الثالث. لا تفهم ما السبب بالضبط، لكن هذا ما يحدث. تضحك فى سرها. ربما هى الوحدة التى تجعلها تفكر فى كل هذه الأمور لكى تهرب بخيالها من القلق. تريد أن تكون وليمتها الليلة أكثر من مشرفة، فهى تعشق حفيدتها وترغب فى تبييض وجهها أمام زوج المستقبل.

تعود إلى قصة «مفارش فيشى»، حين زار نابليون الثالث قرية صغيرة بالقرب من فيشى عام 1863، حيث كان يتم نسج قماش قطنى مزين بخطوط طولية حمراء، أعجبت به كثيرا زوجته الإمبراطورة أوجينى واعتمدته لاحقا فى بلاطها، فصار تدريجيا رمزا إلى الذائقة الفرنسية الرفيعة وأناقة الطعام. صار القماش موضة، وتحول فى القرن العشرين من الخطوط إلى المربعات، وظهر اللون الأزرق إلى جوار الأحمر، كما كانت طاولات مطعم المتنزه المصرى وهى صغيرة، تصعد أعلى الكرسى لكى تصل إلى مستوى كوب الآيس الكريم.

طاولة السفرة بمفرشها الأبيض الذى نال الزمن من ألوانه قليلا شهدت العديد والعديد من الولائم، لكن التجمعات الأسرية حول المائدة قلت بشكل لافت فى الآونة الأخيرة. أصبحت تأكل لحالها على مائدة صغيرة أمام التليفزيون. يتكلم من فيه لكى يؤنس وحدتها. تتركهم يتحدثون دون متابعة الحوار، فى معظم الأحيان، فقط من أجل وجود أصوات معها فى المنزل، حين لا تستمع لأغنيات فيروز، صديقتها الصدوق. يأكل شباب العائلة عندما يأتون لزيارتها وهم يتصفحون هواتفهم وأحيانا يلتهمون شيئا سريعا وهم واقفون بعد أن تناولوا وجبتهم الرئيسية فى العمل، فتردد الجملة الشهيرة التى كانت تقولها مربيتها العجوز: «اجلسوا كى لا ينزل الأكل فى أقدامكم».   

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة