لحظات الصمت تترك لنا مساحة لتنهيدة حائرة، بين حركة موسيقية وأخرى، داخل كنيسة «كل القديسين» بالزمالك. القداس الجنائزى (requiem) الذى لحنه المؤلف الأسترالى لى برادشو، واشترك فى أدائه الأسبوع الماضى كورال القاهرة الاحتفالى وأوركسترا مكتبة الإسكندرية بالإضافة إلى كورال شباب هذه الأخيرة تحت قيادة المايسترو ناير ناجى، قلب الكثير من المواجع. هى مقطوعة مهداة إلى أرواح الذين غادرونا ورحلوا عن عالمنا، وتركونا نبحث عنهم وسط الزحام فى بلاد صارت أطلالًا وخرائب. دون أن ندرى، تتسرب أنغامه إلى النفس لتغرقنا فى حالة من الشجن، تطفو الذكريات على السطح وتتلاحق صور من فقدوا كل شىء فى لحظة بسبب هذه الحرب أو تلك. انطلق المؤلف الموسيقى من تجربة ذاتية بعد موت صديق عانى طويلًا من المرض، كما شرح قبل بدء العزف، ثم اختلطت المشاعر وعبرت الموسيقى بشكل أوسع عن آلام عدة مرتبطة بالموت وإحساس الفقد. القاعة استوعبت جلال هذه نوعية من الموسيقى المخصصة عادة لإحلال السلام والسكون فى نفوس الموتى، وقد ساهم فى ذلك أن قداس الرقاد الذى حمل عنوان «هؤلاء الذين تركونا ورحلوا» قد عُزف فى مكانه الطبيعى وهو الكنيسة، وكان ضمن الفنانين الموجودين على المسرح والدة صديق المؤلف الذى أهدى المقطوعة إلى ذكراه وأخوه، وقد اختاروا جميعا أن تُقَدم للمرة الأولى فى مصر بمناسبة مرور 75 عامًا على العلاقات الدبلوماسية المصرية الأسترالية. وعلى هذا فقد تم عزفها فى مكتبة الإسكندرية، ثم فى «كل القديسين» قبل أن تتجول فى أنحاء العالم. بدأت الحكاية بأن اقترح المايسترو ناير ناجى على لى برادشو أن يكتب قداسا جنائزيا وهو الذى قدم أوبرا «زرقاء اليمامة» العام الماضى فى السعودية. استغرب المؤلف وتردد قليلًا، كيف له أن ينافس قداس موتسارت الجنائزى الذى يعد من أروع أعماله رغم عدم اكتماله، فقد توفى هذا الأخير قبل أن يُتِمه وانتشرت حوله روايات كثيرة. • • •هناك وجه شبه بين العملين يتعلق بأن كليهما تم بطلب من طرف آخر أو بناءً على توصية، إذ تذكر كتب التاريخ أن رجلًا غامضًا طرق باب موتسارت وطلب إليه تأليف قداس جنائزى وانصرف دون أن يعلم من هو، فى حين تؤكد مراجع أخرى أن هذا الرجل هو محامى الكونت فرانز فون فالزيج الذى أراد أن يعزف القداس فى وفاة زوجته، فكان هذا العمل الموسيقى الكبير الذى يرجع تاريخه إلى عام 1791. وهو واحد ضمن ألفى مقطوعة موسيقية من النوع نفسه انتشرت فى أرجاء الدنيا، أقدمها والمعروف لدينا ينتمى للقرن الخامس عشر وهو قداس يوهانس أوكيغهيم الذى يعد من أبرز أعلام المدرسة الفلامنكية وقد اشتهر بقدرته على مطابقة عدة خطوط لحنية. ثم كان قداس موتسارت الذى تلاه آخرون مثل فيردى وفوريه وبرليوزوبرامز وغيرهم، إذ شهدت المرحلة الباروكية (1600-1750) خروج قداس الموتى من الإطار الكنسى ليصبح عملا قائما بذاته ويتم عزفه أمام الجمهور العام وفى قاعات الموسيقى بعيدا عن الطقوس الدينية، وإن استوحى نصوصه من القداس الأصلى. وتطور كثيرًا خلال القرن التاسع عشر وتعمق بناءه السينفونى وتركيبته الدرامية على نحو لافت، مع الاحتفاظ بشكله الموسيقى التقليدى الذى يجعله يبدو كالوحات متتالية تمثل رحلة المتوفى الروحية. تأمل ذاتى حول الموت، مزيج من الإيمان والتطلع إلى السلام وكشف لأسرار الحياة والوجود، وهو يشترك فى الترانيم مع جميع قداديس الجنازة. يبدأ دائما بمقدمة يطلب فيها الرحمة الأبدية للمتوفى، وهى الجملة اللاتينية التى اشتق منها الاسم requiem، ثم جزء تتردد فيه عبارة «كيرياليسون»، وتعنى «يا رب ارحم»، ثم قصيدة ملحمية طويلة عن يوم الدينونة والغضب الإلهى، وتتوالى المراحل المختلفة حتى نصل إلى فكرة تحرير الروح، كل ذلك يتم بمرافقة أوركسترالية وكورالية تتميز بالتعدد والتجانس الصوتى.. نجح المؤلف والمايسترو فى تحقيقه ببراعة من خلال مقطوعة «هؤلاء الذين تركونا ورحلوا». وصلنا معهم إلى راحة الأرواح بعد رحلة طويلة لم نشعر بشقائها بسبب المتعة الممزوجة بالحزن.• • •كان ناير ناجى يحفظ الكلمات عن غيب ويرددها وهو يشير بعصاه الصغيرة لتنطلق الأصوات نحو السماء فى تناغم تام مع موسيقى لى برادشو التى تتميز بحساسية بالغة، فلديه قدرة على إثارة المشاعر مثل مؤلفه المفضل بيتهوفن الذى غير مجرى حياته... منذ أن استمع إلى سيمفونيته الخامسة وهو فى التاسعة من عمره فطن إلى أهمية الموسيقى بالنسبة إليه وحدد حلمه بأن يصبح ملحنا، وكان قد بدأ فى تعلم العزف على كمان أهداه إياه جده لأبيه. تأثر بالأعمال الكلاسيكية لموتسارت وباخ وهندل وبارتوك، لكنه انخرط فى اكتشاف أنواع مختلفة من الموسيقى والغناء فجرب الروك والجاز والريجى لمدة عشرين عامًا قبل أن يعود مرة أخرى إلى عالم الأوبرا والكونشرتو والأوركسترا، وهو يكتب أيضًا شعرًا ونثرًا. هدفه كان دومًا أن ينظم موسيقى متدفقة، قريبة إلى القلب، يمكن للناس أن يروا أنفسهم فيها ويعبروا من خلالها عن مشاعرهم، وهو ما حدث تلك الليلة فى كنيسة «كل القديسين» حين انهمرت الدموع على وجه المستمعين. ساعدتهم الموسيقى لكى يتخلصوا من حزن دفين، وصاروا جزءًا من الكورال الذى يمثل فى مثل هذا القالب الموسيقى جموع الناس خاصة الذين يشتركون فى حالة حداد. أحيانًا تصبح الكلمات عبءً علينا، تقف عاجزة أمام موت أطفال من الجوع أو فقد عزيز، وعندئذٍ تكون الموسيقى هى الملاذ والحل. وتبقى ذكرى «هولاء الذين غادرونا وتركونا خلفهم»، وهى الترجمة الحرفية لعنوان قداس لى برادشو الجنائزى.
مقالات اليوم حسن المستكاوي مدرب يونايتد : «حتى البابا لن يجعلنى أغيّر أسلوبى!» عماد الدين حسين روبيو وزير خارجية إسرائيل! الأب رفيق جريش يا وزارة التعليم.. نظرة على المدارس أحمد عبد ربه الشعبوية على اليسار أيضًا! إيريني سعيد صنع القرار السياسى.. بين المخاطر والمسئوليات محمود عبد الشكور «قاهرة» علاء الديب إيهاب الملاح «بوب فيكشن».. نوستالجيا كتب الجيب! العالم يفكر هل دخل البشر مرحلة التهجين فعلا؟
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك