فى زمن تتسارع فيه التحولات التقنية وتتصارع فيه الدول رقميا وتتداخل فيه المفاهيم القديمة والمستجدة، لم يعد العالم يسير وفق أنماط مستقرة أو تصنيفات مألوفة. نحن نعيش اليوم فى مرحلة تهجين شاملة، لا تقتصر على المنتجات أو المدن أو أنماط الاستهلاك، بل تمتد إلى الإنسان نفسه، إلى جسده، إلى إدراكه، وإلى هويته. هذا التهجين لا يعبر عن مجرد تداخل بين عناصر مختلفة، بل عن إعادة تشكيل للواقع، حيث تتفكك الحدود بين الطبيعى والمصطنع، بين البيولوجى والرقمى، وبين الذات والآخر.لقد تجاوزنا مرحلة المزج البسيط بين العمل الحضورى والعمل عن بعد، التى فرضتها جائحة كورونا، لنصل إلى نماذج هجينة فى كل شىء: فى التعليم، فى العلاقات، فى الموضة، وحتى فى اللغة. لم نعد نميز بين ثياب النساء والرجال، ولا بين المدارس التقليدية والمدارس الرقمية، ولا بين الإنسان «الطبيعى» والإنسان «المعزز تقنيا». هذا التداخل يطرح سؤالا جوهريا: هل التهجين يهدد الهوية؟ أم أنه يعيد تشكيلها؟يصبح التهجين ليس مجرد خيار تقنى، بل يغدو مسارا وجوديا. نحن لا نستهلك التقنية فقط، بل يعاد تشكيلنا من خلالها. الذكاء الاصطناعى لا يساعدنا فقط، بل يعيد تشكيل طريقة تفكيرنا. الشرائح الذكية لا تعزز قدراتنا فقط، بل تعيد تعريف وعينا. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل نحن ما زلنا بشرا؟ أم أننا نتحول إلى كائنات جديدة، هجينة، لا تنتمى إلى أى تصنيف سابق؟التهجين بين الإنسان والآلة ربما يعتبر التفسير الأكثر حداثة. الإنسان يدمج التكنولوجيا بشكل متزايد فى جسده وحياته اليومية، ويتحول تدريجيا إلى «سايبورج»، ليس بمعنى الخيال العلمى، بل من خلال دمج التكنولوجيا فى جسده ووظائفه الحيوية.فالتهجين بهذا الشكل يحطم التعريفات التقليدية ويتحدى حدود خيالنا. فهل يؤدى هذا التنوع وعدم التجانس إلى مواقف تتعارض مع «رؤيتنا» الذهنية الحالية للأمور؟هل نحن فى حالة فكرية تمنعنا من رؤية الواقع؟التغيرات المتسارعة جعلتنا عاجزين عن فهم الواقع حين يصبح هجينا، إذ لم يعد يتوافق مع الرؤية المعرفية التى اعتدنا التفكير من خلالها. ومع ازدياد التهجين فى العالم، تعثر تفسيرنا للحالات، ما أدى إلى «تعبئة الدماغ» بمعلومات غير واقعية. وهنا نشأت ظاهرة الأخبار الكاذبة التى يستغلها أصحاب الأجندات المشبوهة وغير المشبوهة، إضافة إلى العديد من الظواهر الأخرى التى يصدقها الناس أحيانا، لأنها تتماشى مع أفكارهم وتدعم رؤيتهم. وهذا يتطلب تربية ترتكز على بناء الفكر المنطقى الإيجابى والنقدى الذى يطرح تساؤلات من الممكن أن تساعد فى شرح العالم وفهمه.لا شك فى أن البشر هم مزيج من الثقافات والجذور والتواريخ، وفى أن الهويات المختلفة تبنى عليها؛ فماذا نفعل بهذه الهويات المختلفة؟ هل يجب سيطرة الواحدة على الأخرى؟ وهل علينا تحديد العلاقة بين الأفراد بناء على هوية كل واحد منهم؟ الجواب، نعم، علينا الاحتراس، إذ لا يمكن أن يحصل تحديد هذه العلاقة من دون فهم هذا الاختلاف من جهة، ومن دون الانصهار فى هوية الآخر. فالتهجين يؤدى إلى عدم فهم من نحن. ومن هنا نصل إلى اللامبالاة فى رؤية العالم. ففى أى علاقة يجب تجنب أمور عدة للحفاظ على الهوية وإلا وقعنا فى منزلق الخيار الثالث الذى يضعنا فى تخبط ذاتى متأرجح بين الواقع والخيال بحيث يصبح من الصعب التمييز فى ما بينهما. إن عدم التجانس يترك أثرا عندما نكون مع ما هو خارج عن الطبيعة، والطبيعة ليست من اختراع الإنسان، فهو غير قادر على ذلك وقدراته لم تصل بعد حتى لفهم العالم، وهو ما زال جاهلا للعديد من الأمور. فما بينه مؤخرا فيروس كورونا هو هشاشة الإنسان وضعفه حتى مع كل الأدوات والأجهزة التى يتفاخر بها.وإذا كان البعض يعتبر أن التهجين فى الاقتصاد والثقافة وفى جميع القطاعات يؤدى إلى تنشيط دورة الحياة الثقافية والاقتصادية، فهذا لا يعنى مطلقا إعادة اختراع الإنسان من خلال اعتماد هذا النهج الهجين، واتجاه الجميع إلى البحث عن طرق للتحول. فلنتواضع فى فهمنا للعالم ولأنفسنا، حتى لا نقع فى المحظور الذى سيؤدى إلى ضياع كل شىء، بما فيها الذات الإنسانية التى هى من الصعب أن ترقمن.التهجين الثقافى والكينونىفى عالم معولم، أصبحت فيه الهويات متعددة، مرنة، ومختلطة، يبرز التهجين الثقافى من خلال اللغات الهجينة، مثل الفرانكو أراب، أو العربية المحكية الممزوجة بالفرنسية أو الإنجليزية؛ حيث إن إمكانية التنقل واقعيا وافتراضيا من الممكن أن تؤدى إلى هويات مشتتة ومتشظية قد يشعر فيها الفرد أنه متعدد الجنسيات والقوميات والديانات فى آن معا، ما يفتح آفاقا مستجدة حول مفهوم الانتماء. فالأجيال الجديدة من مثل «زد» و«ألفا» تتمتع بثقافات رقمية، وتتشارك مرجعيات عالمية (ميمز Memes، موسيقى، ألعاب) تتجاوز الحدود الجغرافية، ما يفضى إلى ثراء ثقافى من جراء بناء أشكال جديدة من التعبير والتضامن والمرونة، أى القدرة على التنقل بين عوالم متعددة، وبناء جسور بينها. غير أن ذلك يؤدى فى الوقت عينه إلى توترات تتعلق بأزمات الهوية، التى من الممكن أن تدفع نحو الانغلاق على الذات، ولاسيما لدى الأشخاص الأقل احترازا تقنيا، وإلى صراعات ثقافية.أما ما طرح مؤخرا حول تهجين الجنس أو النوع الاجتماعى، فيرتبط بالهوية الذاتية. لذا تعتبر الأكثرية فى العالم أن النوع الجندرى هو حقيقة ثابتة بيولوجية، وأن تغييرها أو جعلها دينامية، يعد نوعا من «الخيانة» للطبيعة وللذات. وهذا ما يطرح تساؤلات حول القواعد الاجتماعية القائمة (كالمدرسة، والعائلة، والدين، والقانون): هل يجب تعديل هذه المؤسسات لتتوافق مع هذه الهويات؟ أم يطلب من الأفراد التكيف معها؟إضافة إلى ذلك، يثار الجدل حول مدى ضرورة التحدث مع الأطفال عن النوع الثالث غير الثابت. فالبعض يخشى من احتمال حدوث «ارتباك» أو «تأثير أيديولوجى»، بينما يؤمن المدافعون عن هذه الأفكار الهجينة أن التحدى الأخلاقى يكمن فى حماية حرية تطور الطفل من دون فرض نمط صارم أو هوية جاهزة عليه، وأن التعليم يمكن أن يقدم مرجعيات منفتحة ومتعاطفة من دون أن يكون موجها أو قسريا.قانونيا، تطرح تحديات ترتبط بالوثائق الرسمية وما يتبعها من إمكانيات تتعلق بالتمييز الجندرى. ويلجأ مؤيدو النوع الثالث إلى الأخلاق العامة، معتبرين أنها تهدف إلى تحقيق المساواة فى المعاملة وحماية الأقليات، وأن إنكار الاعتراف بالنوع «الديناميكى» يعد ظلما بنيويا.التهجين المعرفىأما بالنسبة إلى التهجين المعرفى، فالملاحظ أن الذكاء البشرى يكمل اليوم بالذكاء الاصطناعى، كشكل من أشكال التعاون الهجين. ففى مجال الطب، إذا كان الذكاء الاصطناعى يساعد فى التشخيص، فإن القرار النهائى ما زال للطبيب. هذا ما هو سار حتى الآن على الأقل.فى مجال الإبداع الفنى، يستخدم العديد من الفنانين أدوات توليدية مثل DALL.E وChatGPT لإنشاء أعمال فنية مبتكرة. أما فى مجالى التعليم والعمل، فثمة تطبيقات تساعد على التعلم، والبرمجة، والكتابة، والتنظيم. ومع ذلك، يجب التنبيه إلى أن الاعتماد المفرط وغير المنظم على الذكاء الاصطناعى قد يشكل خطرا على القدرات الذهنية، ويقلل من قدرة الأفراد على التفكير النقدى. وهذا ما يؤدى إلى ما يعرف بـ«تعفن الدماغ»، الناتج عن عدم تنشيط خلاياه وحثه على البحث والتنقيب عن المعرفة.وفى علم الأحياء، يعرف التهجين بأنه تزاوج بين كائنين من نوعين مختلفين، لإنتاج نسل يجمع صفاتهما الوراثية. يحدث ذلك طبيعيا أو لأهداف زراعية وعلمية. فى النباتات، يستخدم لتحسين الإنتاج أو مقاومة الأمراض، ولكن الإنسان لم يعرف حتى الآن كنوع من أنواع النباتات!فهل سيؤدى ذلك كله إلى إعادة تعريف للمؤلف والتأليف والفن والفنانين والفكر والمفكرين، أو أن ما يحصل هو مجرد «موضة» أو شكل من أشكال النرجسية؟استطرادا، من الممكن استشراف المستقبل، إذ قد نشهد ظهور «مجتمعات هجينة»، أو حتى «أديان رقمية»، بحيث يصبح الانتماء افتراضيا، والطقوس رقمية، والهوية قابلة للتخصيص، وقد يتحول التعليم إلى تجربة غامرة بالكامل، وقد تبنى العلاقات وتفكك فى فضاءات لامادية. لكن وسط هذا التدفق، يبقى السؤال الجوهرى مرتبطا بكيفية الحفاظ على الذات الإنسانية، فى ظل سؤال مهم جدا حول ما إذا سيبقى الإنسان «إنسانا» فى عالم يعاد تشكيله وفق منطق البرمجة والخوارزميات؟فى النهاية، المنطق الحالى يقول إن الحفاظ على «روح» الإنسان وسط هذا التدفق التقنى لا يكون برفض التطور، بل بإعادة التفكير فى معناه، ووضع معايير جديدة توازن بين الحرية والتحكم، بين الإبداع والخوارزمية، وبين الإنسان وما بعده. التهجين ليس مجرد ظاهرة تقنية، بل هو سؤال فلسفى، أخلاقى، ووجودى، يعيد تشكيل علاقتنا بالعالم، وبأنفسنا وبالآخر.غسان مراد مؤسسة الفكر العربىالنص الأصلى:https://bitly.cx/uWX16
مقالات اليوم حسن المستكاوي مدرب يونايتد : «حتى البابا لن يجعلنى أغيّر أسلوبى!» عماد الدين حسين روبيو وزير خارجية إسرائيل! الأب رفيق جريش يا وزارة التعليم.. نظرة على المدارس أحمد عبد ربه الشعبوية على اليسار أيضًا! داليا شمس موسيقى الراحة الأبدية إيريني سعيد صنع القرار السياسى.. بين المخاطر والمسئوليات محمود عبد الشكور «قاهرة» علاء الديب إيهاب الملاح «بوب فيكشن».. نوستالجيا كتب الجيب!
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك